دراسة | ماذا نرى، عندما ننظر؟ وماذا نَصِف، عندما نصف؟ منذ ربيع العام 2007 وأنا أسلك شارع حارة حريك الرئيس أو شارع المقاومة والتحرير، في طريقي إلى مقر إدارة مشروع وعد، أو في طريقي إلى أمكنة الدمار وإعادة الإعمار في حارة حريك. في الأيام الأولى التي تلت وقف الحرب، كان الوافدون كُثُراً. يأتون ليحاولوا الدخول إلى المجال المدمّرً.
سلكتُ الشارع مع الوافدين الكثر. واجهةُ الشارع الغربية لم تكن أصلاً في دائرة الاستهداف الوحشي. كل شيء فيها يشبه ما هي عليه اليوم. زحمة المحال التجارية بأسمائها المختلفة، والألوان الصارخة، والملابس المزيّنة.

الواجهات، الفيترينات والمنافذ باتجاه المطار، وارتفاع المباني، وخط السماء والسماء فوق الخط، كل شيء في هذه الواجهة يحكي حالته، يصف ذاته، يدلّ على مكوّناته، يشير إلى ما يميّزه.
موضوع الفضول عند الوافدين الكثر كان محصوراً في واجهة الشارع الشرقية. استهدفت الحرب فيها مناطق محدودة، وكل الدمار استقرّ خلفها. لم تبُحِ الواجهةُ بشيء. المباني، واجهات المحال التجارية، المعروضات في الطوابق الأولى فوق المتاجر، الإعلانات التجارية الملونة، الجهد الإشهاري الطاغي، كل الملامح ساكنة. كل المنافذ نحو الشرق صامتة، لا تهمس بشيء. صور القصف الذي استمر 33 يوماً وملأ كل شاشات التلفزة حاضرة في الأذهان. الحرائق واللهب والدخان كلها حيّة في الذاكرة، إلا أن الأمكنة في الواجهة الشرقية للشارع غير مكترثة. الناس في الشارع. هذا ينظف دكانه وجاره يساعده، مشترون في الدكاكين القريبة ومتفرجون في الجوار. السيارات مصطفّة على جانبي الطريق. كثر يدخلون من المنافذ المفتوحة باتجاه الشرق حيث الدمار الذي لم نره بعد، وكثر يخرجون من المنافذ ذاتها، إلا أن الأمكنة هنا متكتّمة، أشدّد، تخفي انفعالها، وتكتم مشاعرها ولا تبوح بالواقع الذي يختبئ خلف زجاج متاجرها ا، وخلف ستائر شرفاتها المسدلة دائماً.
اللافت هو أن الازدحام في الشارع أكثر من المعتاد، وأن الاطمئنان ظاهر على الوجوه. اطمئنان يكاد يصرخ معلناً قناعتهم بأن إسرائيل قد هُزمت، وبأنها قد أنهت الحرب مرغمة، وبأن النصر كان حليف أهلهم، وناسهم، وأحبائهم، المقاومين.

منطقة الدمار

من شارع حارة حريك الرئيس إلى منطقة الدمار، خلف الواجهات. نزلت من «التاكسي» في منتصف الشارع. تبعد الكنيسة عني قليلاً. وقفتُ مع الناس أمام الواجهة الغربية، ننظر كلنا إلى واجهة الشارع الشرقية. مبنى الكنيسة ومبنى المجلس البلدي المقابل بحالة جيدة، ترى الركام في الداخل بوضوح. لا وصول إلى الداخل من المنافذ هنا. تدلّك جموع الوافدين إلى الأسفل، إلى الشارع مقابل الثانوية. في المكان تقاطع جميل كل محيطه سليم، وكل ما فيه من مبانٍ ومخازن وواجهات، سليم أيضاً. كل الستائر لا تزال معلقة مسدلة، تحجب الشرفات.
من هنا كانت الجموع تدخل. هذا شارع الشهيد أحمد قصير، قال أحدهم. معظم الوافدين وأنا منهم، كنا نعرف شارع حارة حريك جيداً، إلا أننا لم نكن نعرف الداخل. في بدايات السبعينيات كان لديّ ورشة صغيرة في أعلى الشارع، فرعٌ لتعاونية استهلاكية. المقاول في الورشة كان النقيب الراحل بهاء الدين البساط. كان الشارع درباً متعرّجاً في حارة، أليفاً، متواضعاً، بمبانيه وبعمارته. ثم عرفته متحولاً حتى منتصف السبعينيات مع بداية الحرب الأهلية. وكنت قد صمّمتُ في منطقة المريجة للمحامي والصديق الراحل نديم الدكاش مجمّعاً سكنياً كبيراً في الأراضي التي كانت تملكها عائلته هناك. أوقفت الحرب الأهلية مشروع المجمع.
عبرتُ مع الوافدين الكثر بوابة الشارع ونحن ننظر إلى الشمال. لم نرَ إلا الركام يحوط بعض المباني التي صمدت. عشرات الأمتار نحو الشرق نسيرها. الركام قريب منّا، يحجب ركاماً هائلاً بعيداً يبدو، وسط حقل التفحّم والاحتراق والسواد. المشهد السريالي هو في المباني المرتفعة التي صمدت وسط الدمار. كيف بقيت؟ لماذا لم تدمّر؟ مَن يسكنها؟ (...) الوافدون يأتون من كل صوب، يغامرون، يصعدون فوق جبال الركام،. أزيلَ معظمه بسرعة، وامتلأت الأمكنة المحروقة بالوافدين. زوار، ومتابعون، وعائدون، العائدون خاصة إلى منازلهم التي صمدت، كما صمدت المقاومة، (...)
هنا كان مبنى تلفزيون المنار(...)، وفي هذا المجال الصغير كان يسكن سماحة السيد حسن نصر الله . لا أثر لأي بنيان في الموقع، إطار معدني لبوابة خارجية، وركام بسيط في مساحة صغيرة. أزيل الركام بشكل كامل تقريباً، وهدمت بعض المباني المتصدعة، ونُظّفت الأمكنة، وبدت واضحة حدود منطقة الدمار الكامل، حدود الأرض التي أحرقتها حرب إسرائيل..

في التنظيم المديني

ناتج الحرب على الضاحية دموي، وحشي، لكن مساحة الدمار كانت صغيرة نسبياً، وهي لا تتعدى الـ40 هكتاراً. إصابة موضعية، ومعالجة تنظيمية موضعية بالضرورة. تقوم على عدم توسيع رقعة الدمار وترميم كل ما يمكن ترميمه.
دراسة تحليلية لشبكة الطرقات الموجودة، وتلك التي حالت الحرب الأهلية دون جعلها أكثر اتساعاً، وتحديد الشارع الرئيس والشوارع الداخلية والشوارع الفرعية، والحفاظ على الدروب القديمة،. ويحدَّد طابع العمارة في كل شارع انطلاقاً من أهميته. الانتظام في التراجع عن التخطيط في شارع الشورى الرئيس، وانتظام الواجهات وبساطتها، وتخفيف نتوء الشرفات، وتوضيح دورها في تيبولوجيات الواجهات، وفي مورفولوجية الشارع. أما في الشوارع الأخرى فالنظام مرن، لتنساب معظم المباني مع تسلّل الدروب العتيقة .
في الرؤية العامة لتنظيم المنطقة مدينياً، تحسينٌ في التأليف وراهنية في المعالجات، وفي اختيار المواد. وفيها تجميع الشرفات، ومعالجة زوايا المباني عند كل التفاف، وعند أطراف الشوارع، والمحافظة على الأحواش الداخلية كفسحات لقاء وضوء وتهوئة، وتحويل كل المتبقي من تنفيذ المخططات التنظيمية إلى أملاك عامة. وفيها استلهام النسيج المحيط، وإعمار المهدَّم راهناً،. وفيها استعادة روح الأمكنة، بما يدعو النازحين إلى العودة لأماكن سكنهم، وأماكن عملهم. وفيها دعوتهم إلى استرجاع حقوقهم كاملة، وإلى إعادة بناء إطار حياتهم. وفيها أخيراً، إنعاش الذاكرة الجماعية باستعادة الأمكنة، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي كما كان عليه قبل الحرب .

شارع الشورى

(...) يقع شارع الشورى في أعلى الموقع شمالاً. ضمّةٌ من المباني التي صمدت، تفصله عن حدود منطقة الدرس شمالاً. كل المباني التي دُمّرت وسط هذه الضمّة أعيد إعمارها. ينحدر الشارع بلطف من الغرب باتجاه الشرق (...) في نظرةٍ من عند تقاطعه مع شارع أشبال الساحل، ترى الشارع أمامك بكامله. البوابة حيث زوايا المباني نصف الدائرية، بليغة الحضور، فهي كأبراج قصور العرب في البادية، أو كأنها على الطراز المعماري النيوباروكي المستعار من عمارة الخديوي إسماعيل في القاهرة.
في الواجهة الشمالية للشارع، تستمر الأرصفة مستقيمة من الغرب إلى الشرق، إلا أن ضمّة المباني التي رمّمت، وتلك التي أعيد بناؤها متراجعة عن حدود التخطيط، تجعل الشارع عريضاً في وسطه، وتزرع له قلباً يعيش وينبض هناك، كما الشجرة الصامدة التي تجاوره.
قبل القلب، بواباتٌ إلى أحواشٍ داخلية. تشدّك الواجهات الملتفّة إلى هذه الأحواش، وتجعلها امتداداً للشارع. قبل القلب أيضاً، دلالات التقاطع مع الشوارع الفرعية التي تربط شارع الشورى بشارع السيد عباس الموسوي. (...).
أما ميزة الشارع الرئيسة فتبقى قلبه، وفيه بُطينان كما في كل قلب. البطينُ الأيمن في حديقة الشهيد صلاح غندور، والبطين الأيسر في امتداد الرصيف حيث المباني المتراجعة. المقهى الصغير في البطين الأيسر للقلب أمامه رصيف عريض وطاولات مع كراس ملونة خضراء وحمراء.
تجلس على كرسي أحمر، أمامك الواجهة الجنوبية للشارع، الرصيف مشجّر، والرصيف المقابل مشجّر أيضاً والمجال يبدو فسيحاً والسماء قريبة زرقاء. المبنى أمامك ملتفّ ليدلّ على الزاوية، والشرفات عريضة عميقة، معلّقة على جسم المبنى. أما المبنى الذي يجاوره فتصنع الشرفة الناتئة زاويته مع ظلالها على الجدار الأصمّ الذي يحملها. تتكرّر الشرفات المعلّقة على أجسام المباني، وتجعل من تكرارها عناصر وحدةٍ في عمارتها. عند البطين الأيمن للقلب ضُمّةٌ من المباني القديمة يعود بعضها إلى أوائل الستينيات، يوم كانت شوارع اليوم زواريب شاعرية، والتفاصيل أنغام تحيي العمارات.
(...) الأرض المحروقة التي خلّفتها حرب إسرائيل على الضاحية الجنوبية، غطّت أماكن متباعدة نسبياً، إلا أن الجزء الرئيس فيها امتدّ من قلب شارع الشورى شمالاً حتى شارع الشهيد أحمد قصير جنوباً، مروراً بشارع الشيخ راغب حرب الذي يربط شارع السيد عباس الموسوي بشارع الشهيد أحمد قصير، ويربطه بالتالي بالمنافذ المتعددة المؤدية إلى داخل مناطق الضاحية الجنوبية الواسعة. الحيّز الذي أحرق وطمر بالركام والرماد مربّع الشكل، لا تتعدى مساحته الـ16 هكتاراً، وعدد المباني المدمرة فيه فاق المئة مبنى. محور هذا الحيّز هو شارع السيد عباس الموسوي. أعيد إعمار الحيّز المدمر كلياً، وعاد شارع السيد عباس الموسوي إلى مكانته. الشارع منحدر وامتداده واضح وبوابته الشرقية واضحة أيضاً، تختلط على جانبيه المباني المرممة والمباني المُعاد إعمارها، وتكثر فيه التقاطعات والزوايا الملتفّة. تشعر، وأنت تقف عند التقاطع الرئيس حيث الزوايا لأبراج، تشعر بأنك مدعوٌّ للسير فلي الاتجاهات الأربع. كما تشعر بأن الدروب هناك تأتي من بعيد، من استدارة آخر شارع الدكاش، وتذهب في الاتجاه الآخر إلى البعيد أيضاً. توحي لك الامتدادات المتعرجة الليّنة بشاعرية الأمكنة وبترحيب المجالات، بدفئها، بتجانسها وبانسجامها. في الدرب الصاعد على يمينك، 4 مكتبات و4 دور للنشر. الكتب معروضة في الواجهات، كما تعرض أزياء النساء ولعب الأطفال. ترى في وسط الشارع المنحدر أمامك مئذنة المسجد الجديد. تسير مع انحدار الشارع. تتكرر التقاطعات، وتتكرر معها زوايا المباني الدائرية الليّنة. تكثر المقاهي الصغيرة بأسمائها الغربيّة، فتتساءل عن سبب هذا الإصرار على استعمال اللغات الغربية.
تكثر الدروب عند بوابة الشارع الشرقية حيث يتقاطع مع شارع بئر العبد. الدروب هنا كالمتاهات، تخرج منها عبر منفذ أمامك لتعود إليها عبر منفذٍ آخر. إنها لعبة تمارسها بفرح وأنت تدور حول المجمّعات المبنية. ترسم الدروب العتيقة في هذه الزاوية مثلثاً قاعدته شارع بئر العبد، أما الدرب الآتي من الشرق البعيد فيصبح داخل الأمكنة شارعاً تجارياً مكتظاً هو شارع السيد عبد الحسن شرف الدين. معظم المباني قديمة في هذا المربع الصغير، رُمّمت كلها بعناية وبدت أنيقة منسجمة مع جوارها. لم تطل أعمال الترميم الطابقين الأرضي والأول حيث عجقة الأسماء وكثرة الألوان وزحمة السيارات في تجاويف الأرصفة وكثرة الجالسين حول نراجيلهم. ثمة درب آخر يأتي من الجنوب ليوصلك إلى مركز الضاحية الجنوبية التجاري.
(...) شارع الشهيد أحمد قصير يوازي بأهميته شارع الشورى، إذ يوصل الموقع بامتداداته إلى داخل منطقة الضاحية الواسعة. لم تستهدف الآلة الحربية الإسرائيلية الشارع بكامله، بل اكتفت بتدمير عدة مبانٍ في موقع تلفزيون المنار. كان هذا الشارع المدخل الرئيس إلى المنطقة المدمرة، بعد وقف الحرب الإسرائيلية. تلتفّ يساراً في منتصفه، فتكتشف أنك في شارع الربط، شارع الشيخ راغب حرب. لقد دمرت حرب إسرائيل واجهة الشارع الغربية بكاملها، كما دمرت مبنى واحداً في واجهته الشرقية. أعيد بناء الأبنية المدمرة، أما المباني التي صمدت فقد رُمّمت بإتقانٍ لافت. ما إن تدخل الشارع حتى ترى في محوره عند طرفه الشمالي إحدى مئذنتي المسجد الجديد الذي بُنيَ قبالته في الواجهة الشمالية لشارع السيد عباس الموسوي، وأصبح الشارع بذلك طريق الوصول إلى المسجد الجديد.
كنّا في المخطط التنظيمي الذي أعددناه لإعادة الإعمار قد قرأنا الشارعين، شارع السيد عباس الموسوي وشارع الشيخ راغب حرب، شارعاً واحداً على شكل «T». وينحصر دور شارع الشيخ راغب حرب وفق هذه الرؤية بربط المنطقة بالمدخل الرئيس إليها، أي شارع الشهيد أحمد قصير. وبعد بناء المسجد تأكّد هذا الدور لا بل ازداد وضوحاً، إذ أصبح الشارع وكأنه صُمّم كمسارٍ للوصول إلى المسجد الذي أصبح الهدف الرئيس في المكان.

عودة الناس إلى الأمكنة

العمارة هي ما ننظر إليه عندما نُنهي بناءه، وما ننساه عندما نسكنه أو نستعمله ونجول فيه أو حوله، يقول مسميليانو فوكساس. والعمارة الحقّة أقول هي المجال الذي نبنيه للآخر، يكون في الوقت ذاته تعبيراً عن فرادته، وعن التعرّف عبر هذه الفرادة إلى انتماء مشترك. جلتُ مرات عدة حول العمارات في الشوارع التي تحوط المربع المدمر، الشوارع الحدود كما أسمّيها، لا لأنسى العمارة كما يقول فوكساس، بل لأراها، لأُمعن النظر فيها، لأتأكد من عودة الناس إليها.
عاد الناس بالفعل إلى محيط المربع المدمر إلى مباني الحدود، فور وقف الحرب. أما المباني التي صمدت داخل المربع وهي كثيرة، فقد عاد إليها أهلها بعد إزالة الركام، وعادت الزحمة إلى هذه الشوارع الحدود بعودة النشاطات التجارية إليها، واصطفّت السيارات كالمعتاد أمام الدكاكين. وفي الشرفات والنوافذ فوق الدكاكين استُبدلت بعض الستائر وأعيد تثبيت بعضها على النوافذ من الخارج وعمّت الواجهات الستائر فسيفساء ملونة، موزعة بانتقائية فيها الكثير من التأليف العفوي والإيقاع الموسيقي. علامات العودة إلى الأماكن التي لم تدمّر في المحيط وفي مناطق عدة من المربع واضحة، مرئية، تصنع الحياة بكل تفاصيلها.
انتهت أعمال إعادة الإعمار تباعاً داخل المربع، وسُلّمت المنازل والدكاكين إلى أصحابها على مراحل، فعادوا إليها على مراحل أيضاً، وعادت إليها الحياة بالتدرُّج. الستارة الطويلة المتدلية والتي تحجب الشرفة، هي الدلالة الرئيسة على وجود الناس في المنازل. فهي إعلان الرغبة في إبقاء مجال الأسرة محميّاً حميماً. إنها التعبير عن الفرادة في المجالات التي نبنيها للناس. والفرادة هذه يشاركهم فيها سكان الشرفات المقابلة الذين أسدلوا ستائرهم أيضاً، وعبّروا بذلك عن انتماء مشترك معلن. ونرى هذا الانتماء المشترك في معظم مناطق بيروت الإدارية وبيروت الكبرى.
والطريف، هو أن هذا الانتماء المشترك يجد تعبيراً آخر له، في عجقة تثبيت أجهزة التكييف في الواجهات. يجهد المصممون حفاظاً على حسن الأداء التقني وعلى تناسق الواجهات كي يجدوا المواقع الملائمة لهذه الأجهزة تقنياً وجمالياً. ويأبى الساكنون إلا أن يثبّتوها في أماكن انتقائية يختارونها لتكون قريبة منهم، في متناول أيديهم، لصيانتها أو استبدالها أو تنظيفها دون الاكتراث بجهد المصممين وبالضرورات التقنية والجمالية. إنه انتماء مشترك بالفعل يحدد علاقة الناس بمفهوم الانتفاع بالمصنّعات وبالتجهيزات وبموقع هذا المفهوم من العمارة باعتبارها شأناً عاماً بكل ما تنسجه من علاقة بالناس، بالشارع، وبمحيطها الأوسع.
عاد الناس إلى الأمكنة. نسير أمام العمارة في شارع الشهيد أحمد قصير أو نجلس أمامها على الكرسي الأحمر في قلب شارع الشورى، فلا المارون، وهم كثر، يحجبونها عنّا، ولا المتفرجون على معروضات الدكاكين أو المتسوقون في داخلها يجعلوننا ننساها، ولا الزحمة على الأرصفة الضيقة تبعد نظرنا عنها وتشدنا إلى عجقة المتنزهين والعابرين.
لا. العمارة هنا موجودة بكتلتها وطوابقها والتأليف في واجهاتها وألوان موادها. نظرنا إليها بعدما أنهينا بناءها، ثم جُلنا حولها وصعدنا أدراجها وأطللنا من شرفاتها العارية على الشرفات المقابلة العارية أيضاً، ثم غادرناها.
وأتى الناس بعدنا وسكنوها. ورغم ذلك لم ننسها كما يرى فوكساس، ونحن جالسون قبالتها ننظر إليها، ونتعرف على علاقة ساكنيها بها. بعضٌ من دلالاتٍ على الانتماء المشترك للناس هنا وهناك، نراها في الستائر المتدلية تقفل الشرفات بإحكام، وعجقة أجهزة التكييف في الواجهات.
أعيد الإعمار وعاد الناس إلى الأمكنة. عُد إلى كرسيّك الأحمر في قلب شارع الشورى، وانظر إلى الواجهة أمامك، إلى المخازن الكبيرة والدكاكين الصغيرة، في الطابق الأرضي. «أكسسوريز» في الزاوية. فيترينات زجاجية شاهقة الارتفاع، خلفها مجسّمات لعارضات يرتدين «الدارج» من الملابس النسائية اليوم. الفستان المختصر، الكتف العارية، الثوب من قطعتين أو أكثر، الزهريّ والورديّ يطغيان. بجانب المخزن الكير مطعم صغير لـ«فرحان الحايك»، فول حمّص فتّه، يذكّر بـ«مرّوش» في شارع الصيداني في منطقة الحمرا. مقهى صغير أيضاً بجانب المطعم «نيروز كافيه أند جوس». يشذُّ «فرحات الحايك»، حيث كل الكتابات على واجهته باللغة العربية. ويشذّ معه أيضاً «ميني ماركت عيسى». وعندما يستدير المبنى في الطرف الآخر يحتلّ الزاوية بكاملها «إل.سي. دي. ستايشن»، أدواتٌ مطبخيّة ومنزلية، أدوات كهربائية.
عاد الناس بوضوح. زاوية كبيرة لـ«الدارج» من الملابس النسائية وزاوية كبيرة أخرى للأدوات المنزلية. وفي الزاوية الثالثة القريبة تُجاهرُ «محلات علويّة» باهتمامها بالبياضات المنزلية. البيت والأسرة واحتياجات البيت والأسرة، مالئة الأمكنة وزينتها.
في شارع الشهيد أحمد قصير، حضور السكان عبر الانتماء العام يدهشك وأنت تنظر إلى واجهة المبنى أمامك. ماذا نقرأ؟ بدايةً أيّ حضور للانتماء العام هو الأكثر تأثيراً؟ عجقة المكيّفات، لوحة تجريدية؟ الستائر المسدلة وهي تترك فسحة فعلية لتسلّل الهواء؟ أسماء الدكاكين النافرة والملونة؟ «علي سليم» صالون للرجال (كوافور يور أوم)؟ أم تسلّل هذه الإعلان الكبير باللغة العربية للدكتور «طارق حامد» في طب وجراحة الفم والأسنان؟ أم الصالون النسائي «دولتشي»، مذكّراً أمثالي بفيلم لـ«الدولتشي فيتا»، ومجاوراً بفضول فاقع الستارة المسدلة في المسكن اللصيق.
عودة الناس؟ في الحضور المميّز للسيارات، وفي احتلالها للمجالات. تترك الطرقات واسعة، وتبتلع تجاويف الأرصفة. إنه أحد المظاهر الرئيسة للانتماء العام هنا، كما في شارع فردان وفي شارع الحمرا وفي شارع مار الياس وغيرها من شوارع بيروت الكبرى، في المصيطبة والطريق الجديدة أو في الضاحية الجنوبية.
المشاة هنا في كل الأمكنة، في الشوارع وقد أصبحت واسعة، في الدروب الخفرة وهي كثيرة، وفي المتبقي الضيق من الأرصفة. أما السيارات فتصطفّ عمودية على الطرقات، بانتظام شبه عسكري. قد تكون الأقسام المتبقية من الأرصفة بعد قضمها متفاوتة العرض في شوارع بيروت، إلا أنها تحولت هنا إلى شريط يكفي لعبور المارة أو المتسوقين ولدخول الدكاكين. ربما بدت الأرصفة العريضة غير مرغوبة بجانب بوابات المباني أو أمام المقاهي الصغيرة الكثيرة الانتشار مثل «لا ليغا» في شارع السيد عباس الموسوي و«V.I.P» في شارع الشورى، مثلاً. واللافت أن الأسماء كلها قد كتبت بلغات غربية.
يقول لوكوربوزييه ما معناه، يجب علينا دائماً أن نقول ما نرى، ويجب علينا أيضاً، وهذا أكثر صعوبة، أن نرى ما نرى. ويتساءل الكاتب الفرنسي جورج بيرك قائلاً، كيف نتجول في المجالات؟ كيف نرى؟ كيف نصف؟ حين نصف؟ وماذا نرى؟ عندما ننظر؟
كيف كان تجوالي في المجالات؟ أسأل، أسألكم هل استطعتُ أن أرى الأمكنة؟ عندما نظرت إليها؟ وهل نجحت في وصفها؟ وهل نرى صورتها ونحن نسمع النصّ أو نقرأه؟ ونشعر بدفء عودة الناس إليها؟