تونس | يضع رأس النظام التونسي لمساته الأخيرة لتثبيت حكمه لخماسية أخرى؛ فبعدما انتهى الرئيس قيس سعيّد من خنق الحياة الحزبية والسياسية وتدجين الصحافة والإعلام، وتحييد «الاتحاد العام التونسي للشغل» وتحجيم مجال فعله، والضغط على النقابيين بسلاح الاعتقالات والتشهير، يلجأ مجدداً إلى إلهاء عموم التونسيين بقضية المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء الأفريقية وإغراقهم في حالة من الاقتتال والعنصرية. وفي السياق هذا، تحدث سعيد، مطلع الأسبوع، في «مجلس الأمن القومي»، عن تدفق مئات المهاجرين يومياً، عازياً ذلك إلى وجود «شبكات من الجمعيات والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين يتلقّون أموالاً طائلة من الخارج من أجل توطين المهاجرين، وهو ما لن تقبل به تونس»، واصفاً النشطاء في مجال اللجوء بالخونة والعملاء، و«مفوضية شؤون اللاجئين» بالمنظمة المكتفية بالبلاغات فقط. هكذا، فضّل النظام استخدام الطريقة «الفعالة» التي انتهجها السنة الماضية، والمتمثلة في تأجيج التونسيين ضد المهاجرين، لتندلع أعمال عنف متبادلة، تضطرّ على إثرها الدول الأفريقية إلى إجلاء مواطنيها وإعادتهم تحت ضغط داخلي، رغم كلفة هذه الخطوة على الصعيدَين الإنساني والأخلاقي. وبالفعل، كان خطاب سعيّد كافياً لإذكاء نار العنصرية والخطابات الشوفينية عن أن «تونس للتونسيين فقط»، وإطلاق شرارة صراع عنيف مفتوح عنوانه «المقاومة الشعبية لاستعمار مهاجري جنوب الصحراء الأفريقية لتونس». والواقع أنه كلما انغمس التونسيون في المشاعر الوطنية الجيّاشة التي غذّاها الرئيس بخطاباته، تحوّلت اهتماماتهم إلى «الخطر الخارجي الداهم»، والمتمثّل حالياً في ملف الهجرة، بدلاً من أن تنصبّ اهتماماتهم على الخطر الداخلي، المتجسّد في إحكام قبضة الرئيس على كامل مفاصل السلطة.
ولم تقتصر مفاعيل خطاب الرئيس على ذلك، بل حمل الخطاب إشارة إلى القضاء أيضاً، لبدء الملاحقات ضد النشطاء. وعليه، جرى اعتقال سعدية مصباح، رئيسة جمعية «منامتي» المناهضة للعنصرية ضد اللاجئين والمهاجرين الأفارقة، ثم شريفة الرياحي، الرئيسة السابقة لجمعية «تونس أرض اللجوء». وفيما تواجه الناشطتان تهماً تتعلق بتبييض الأموال وتسهيل الإقامة غير القانونية للمهاجرين في تونس، رأى مراقبون أن اعتقالهما بمثابة «حلقة أخرى من حلقات استهداف نشطاء المجتمع المدني والتضييق على المنظمات، في إطار مساعي الرئيس لاغتيال جميع قوى الضغط الناعمة معنوياً وقضائياً». والجدير ذكره، هنا، أن النظام يحمل عداءً كبيراً لهذه الجمعيات، نظراً إلى دورها زمن حكم «النهضة»، حيث نجحت في كثير من الأحيان، آنذاك، في دفع المؤسسات ذات الشرعية الانتخابية، على غرار الرئاسة والبرلمان والحكومة، إلى القبول بمقترحاتها.
من المتوقع أن يعمد الرئيس إلى تغيير شروط الترشح للرئاسية


ولا يعني ما تقدّم أن خطر تدفقات الهجرة غير النظامية بسيط على مجتمع يُعدّ، بدوره، مصدّراً للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا بالآلاف كل شهر. إذ تُحال معظم المؤشرات الموضوعية إلى الاقتصاد الوطني الهشّ، وضيق الموارد، وتراجع نسب النموّ، إلى تواصل أزمة إغراق تونس بمهاجري جنوب الصحراء، والتي لا يمكن إلا أن تجعل البلاد أكثر فقراً. غير أن النظام لا يسعى إلى إيجاد مخرج لهذه الأزمة، بل يشيح بنظره عن الحلول المطروحة، ولا يقف بشكل حازم أمام السلطات الجزائرية والليبية التي باتت معبراً للمهاجرين القادمين من الدول الأفريقية الواقعة على حدودها الجنوبية، إلى الحدود التونسية. كما يغيب حزم السلطة في مطالبة الدول التي ينتمي إليها المهاجرون بتشديد سياساتها عبر الحدود أو استعادة مواطنيها. وبالتوازي، تستغل السلطة ملف المهاجرين، أيضاً، في مفاوضاتها مع الجانب الأوروبي، وخاصة إيطاليا، بينما تحوّلت تونس، بشكل ضمني، إلى حارس للضفة الشمالية للمتوسط وحديقة خلفية لإيواء غير المرغوب فيهم في التراب الأوروبي.
في هذا المناخ، ينوي الرئيس تنظيم انتخابات رئاسية ليسير فيها مع مرشحين ضعفاء ووهميّين من أجل تجديد شرعية حكمه بديموقراطية صورية. فبينما يرزح جلّ منافسيه الجديّين في السجون في إطار اعتقالات تجاوزت الآجال القانونية على خلفية قضية «التآمر على أمن الدولة»، تتوالى النيّات للترشح ضدّ سعيّد في السباق الرئاسي المنتظر نهاية العام، إلا أنها تظلّ حركات سياسية هامشية. فبعدما أعلن الوزير الأسبق في نظام زين العابدين بن علي، منذر الزنايدي، نيّته الدخول في السباق، أعلن الوزير السابق في حقبة الباجي قائد السبسي، ناجي جلول، نيته الترشح والمنافسة. ويضاف هؤلاء إلى قائمة تضمّ لطفي المرايحي وليلى الهمامي وعبير موسي رئيسة «الحزب الدستوري الحر» المعتقلة بدورها، فضلاً عن مرشح لـ«حركة الشعب»، الموالية للرئيس، لم يعلن عنه بعد.
على خطّ موازٍ، من المتوقع أن يعمد الرئيس إلى تغيير شروط الترشح للرئاسية، والتي قد تتّجه التعديلات التي تستهدفها نحو إقصاء مزدوجي الجنسية من الترشح، والمحكومين بأحكام قضائية باتّة، فضلاً عن استبعاد الملاحقين قضائياً، علماً أن القيادات السياسية المعتقلة التي يجري التحقيق معها، منذ ما يفوق السنة، بنسق بطيء، ستصدر بشأنها خلال هذه الفترة أحكام قضائية تحرمها بشكل تام من الترشح. وفي هذا السياق، باتت التحركات التي تقوم بها «تنسيقية المعتقلين السياسيين» وإضرابات الجوع التي يخوضها أغلبهم، والتي كان آخرها الإضراب المتواصل للناشط جوهر مبارك لا تجدي نفعاً، حيث لم تكشف المؤسسة السجنية بعد عن حالة مبارك الصحية، رغم نداءات الاستغاثة التي أطلقتها عائلته، مؤكدة منعها من الزيارة والاطلاع على وضعه. وكانت صحيفة محلية قد نشرت رسالة لمبارك حملت عنوان «إما حراً راجلاً أو ميتاً محمولاً على أكتاف الأحرار»، وجاء في نصّها تأكيده رفض حرمانه من الحرية وتجريم العمل السياسي. غير أن رسالته لاقت، بدورها، آذاناً صمّاء لدى الرئيس ولدى معظم التونسيين.