تونس | يدفع النظام التونسي النشطاء والفاعلين إلى التصادم معه دفعاً، ولا يدّخر أي مجهود في استعدائهم. ولعلّ قضية المحامين المعتقلين باتت أبرز مثال على المنحى التراجيدي الذي اتخذه الصراع؛ فلا يكفي أن عبارة «هايلة البلاد» التي قالتها المحامية والإعلامية سنية الدهماني، كانت كفيلة باقتيادها إلى الحبس، مع كل من مقدّم البرنامج برهان بسيّس، والمعلق السياسي مراد الزغيدي، بل سارعت السلطة إلى تصفية حساباتها، أيضاً، مع من تجرأ على مقاومة قرار الاعتقال وحاول منع الأجهزة الأمنية من دخول مقر «نقابة المحامين» (دار المحامي)، إذ اعتقلت الأجهزة الأمنية، الإثنين الماضي، المحامي مهدي زقروبة، بعد اقتحام ثانٍ للمقر، ليتبيّن، في وقت لاحق، تعرض زقروبة لتعذيب وحشي خلال الاحتجاز، فيما رفض قاضي التحقيقات إثبات هذا التعرّض بتقرير من الطب الشرعي، وأصرّ على إيداع المعتقَل السجن رغم حالته الصحية الحرجة ودخوله في غيبوبة.وفاقمت الجملة الواردة في محضر القاضي، حنقاً جماعياً لدى المحامين والكثير من التونسيين؛ إذ أورد القاضي، حسبما نقل المحامون الذين تواجدوا خلال نقل زقروبة من مركز الإيقاف إلى قاضي التحقيقات، أنه «تم إعلامه (زقروبة) بصدور مذكّرة اعتقال بحقه، وهو مغمى عليه وغائب عن الوعي وملقى في قاعة المكتب». وتواترت إثر ذلك الصور والشهادات حول العنف الشديد الذي تعرض له زقروبة، والذي وصل بحسب زملاء له إلى الاعتداء الجنسي. والجدير ذكره، هنا، أنه بعدما روّج حقوقيون من أنصار الرئيس قيس سعيّد، أن الأخير لا يعلم ما يحدث، وأن جهازي الأمن والقضاء يسعيان إلى قلب الرأي العام ضده، سقطت هذه السردية بمجرد صدور بلاغ للرئاسة أكّد علم سعيد بكل تفاصيل الاعتقالات ورضاه عن مآلاتها. وقال الرئيس، مساء الأربعاء، لدى استقباله وزيرة العدل ليلى جفال، إنه «لا وجود إطلاقاً لأي مواجهة مع المحامين» وإن الأمر يتعلق بمن «تجرّأ وحقّر وطنه في وسائل الإعلام»، ومن «اعتدى بالعنف على ضابط أمن»، وفقاً لما نقلت عنه صفحة الرئاسة.
لم يعد الجهاز الأمني يجد داعياً لتبرير «التجاوزات الفردية» أمام الرأي العام


هكذا، تجاهل سعيّد مبادئ المحاكمة العادلة المتعلقة بقرينة البراءة وعدم توجيه القضاء أو ممارسة الضغوطات عليه، إذ استبق سير التحقيقات والأحكام القضائية، بإصدار حكمه السياسي على المحامين والصحافيين المعتقلين، كما فعل سابقاً مع جميع معتقلي الرأي، وهو ما دفع مراقبين إلى التساؤل حول من سيتجرأ على إصدار قرار بعدم سماع الدعوى في حق المعتقلين وقد أدانهم رأس الدولة؟ على أن الاعتقالات لم تقتصر على الإعلاميين والمحامين، بل طاولت أيضاً الناشط حسام حجلاوي، الذي تم إيقافه أول من أمس، على خلفية منشور عبر صفحته على «فايسبوك» وصف فيه سعيّد بـ«الفاشل»، علماً أن حجلاوي كان أحد أول المدوّنين الذين دخلوا في صدام ضد نظام زين العابدين بن علي سابقاً، دفاعاً عن حرية التعبير وحرية النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وعلى خط مواز، لم يعد الجهاز الأمني يجد داعياً لتبرير «التجاوزات الفردية» أمام الرأي العام، أو الوعد بفتح تحقيقات فيها، بل انتقل إلى مرحلة التهديد المباشر بالتتبع والملاحقة لكل من يخالف روايته حولها، إذ نفت وزارة الداخلية، على لسان الناطق الرسمي باسمها، أن يكون زقروبة قد تعرض للتعذيب، ملوّحة بأنها تعتزم تتبع كل من يسوق رواية مغايرة. هكذا، ببساطة ومن دون حتى فتح تحقيق داخلي، قضت «الداخلية» بأن لا مسؤولية لأعوانها عن الحال التي وجد عليها زقروبة ساعة استنطاقه من قبل قاضي التحقيقات الذي تشبث، بدوره، بعدم إحالة المعتقل إلى الطب الشرعي، معلّلاً ذلك بدواعٍ أمنية تفرض بقاءه قيد الاعتقال.
بالنتيجة، بدت العملية برمّتها بمثابة إعلان عن عصر جديد تقطع فيه تونس تماماً مع «حقبة الثورة» التي اندلعت في 17 ديسمبر 2010، والتي يدّعي الرئيس أنه يتبنى مطالبها وشعاراتها وأنه ابن «المسار الثوري» وزعيمه. وبينما كان الرئيس يجهز على المسار القضائي، ويغتال معنوياً الشخصيات المعتقلة، كانت «عمادة المحامين» ترتّب إضرابها الوطني العام وتصدر الدعوات إلى ما تبقّى من منظمات «المجتمع المدني» التي لم يؤثر فيها داء الخوف من الملاحقات، لتنضم إليها في وقفة نفّذتها الخميس الماضي أمام «المحكمة الابتدائية» في تونس، على بعد أمتار من مقرات وزارة العدل ورئاسة الحكومة. وأمام المحكمة، احتشد الآلاف من المحامين والنشطاء، رافعين الشعارات المطالِبة بالحرية، والمتّهمة للنظام القائم بإعطاء الضوء الأخضر للجهاز الأمني لتعذيب النشطاء وسلبهم من حرياتهم.
وقال عميد المحامين، حاتم مزيو، بدوره، في تصريح صحافي، إن العمادة «ستواصل تحركاتها في إطار التعبير عن غضبها من المضايقات التي تعرّض إليها منتسبوها، وخاصة بعد أن عاين بنفسه وقوع التعذيب على المحامي مهدي زقروبة ونقله لإسعافه خلال عملية التحقيق معه»، مشيراً إلى أن القاضي المشرف على سير عملية التحقيق «رفض إحالته على الطب الشرعي لمعاينة آثار التعذيب وإصراره على إيداعه في السجن رغم دخوله في غيبوبة». إلا أن مزيو، الذي يعتبره مراقبون من حلفاء سعيد، تجنّب توجيه أي خطاب مباشر إلى الرئيس، واكتفى بمطالبته بـ«عدم إصدار حكم قبل سماع جميع الأطراف والدعوة ضمان الحريات وعدم المس بها».