أثبتت الطائرات المسيّرة الخفيفة والأنظمة الصاروخية المتحرّكة، وخصوصاً في العمليات العسكرية اليمنية في البحر الأحمر وخليج عدن، أنها تستطيع إبطال فعالية حاملات الطائرات والبوارج الحربية الكبيرة والحديثة والصواريخ والمدفعية التي تمتلكها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى، وذلك بكلفة عادية. وعلى خلفية ما تقدّم، أثار تقرير لـ«معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام» حول الإنفاق العسكري الحكومي المتنامي، صدر الأسبوع الماضي، جدلاً حول جدوى الأسلحة التقليدية وكلفتها المرتفعة جداً وما تشكّله من أعباء على الموازنات العامة للدول، في مواجهة الأسلحة الحديثة، والتي باتت تشكّل الخطر الأكبر الذي يواجه الغرب.وتُعد إيران من الدول الرائدة في صناعة الأسلحة المخصّصة للحروب اللامتناظرة، وهي عمدت إلى تصدير خبراتها إلى حلفائها في محور المقاومة ومنهم اليمن. وقد حقّقت نماذج من الطائرات المسيّرة الإيرانية، من مثل «شاهد» و«مهاجر»، نجاحاً باهراً في الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث اتفق الجانبان الإيراني والروسي على إنشاء خط إنتاج لطائرات «مهاجر 36» في روسيا. وإذ أثبتت تلك الطائرات فعاليتها أيضاً في عمليات المقاومة الفلسطينية أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، وكذلك العمليات العسكرية اليمنية في البحر الأحمر، فإن إنتاجها يتمّ بتكلفة لا تُناظر البتّة ما سجّله المحللون في «معهد استوكهولم» من ارتفاع في الإنفاق العسكري الحكومي في جميع قارات العالم، حيث بلغ، عام 2023، مستويات قياسية، مستقراً عند 2440 مليار دولار. وبحسب المعهد، فإن الدول الأوروبية في حلف «الناتو» زادت من الإنفاق الدفاعي، في حين رفعته الولايات المتحدة بمقدار 2% إلى 916 مليار دولار، بما يمثّل نحو ثلثي إجمالي الإنفاق العسكري للحلف.
وبقي الشرق الأوسط الوجهة الأولى لصادرات الأسلحة، شاملاً 6 من أكبر 10 مستوردين في العالم، تتقدّمهم السعودية، فيما جاءت كل من مصر والجزائر والإمارات والعراق ضمن المراكز الـ10 الأولى، بعدما بلغت وارداتها مجتمعة أكثر من 30% من واردات الأسلحة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة. وفي ما يتصل بدول الخليج تحديداً، فرغم تكتّم دول التحالف السعودي - الإماراتي على خسائره خلال الحرب على اليمن، تشير بعض التقديرات، التي تنشرها مراكز الأبحاث المتخصّصة، إلى الحجم الكبير لها. ومن حيث مستوى الإنفاق المالي على الحرب، قدَّرت صحيفة «التايمز» البريطانية سابقاً التكلفة بنحو 200 مليون دولار يومياً، أي 72 مليار دولار سنوياً، بينما تقدّرها مصادر أخرى بمبالغ أكبر بكثير.
تُعد إيران من الدول الرائدة في صناعة الأسلحة المخصّصة للحروب اللامتناظرة


ووفقاً لميزان الربح والخسارة في الحروب، يمكن تجاوز لغة الأرقام المرتفعة في الكلفة المالية والبشرية، كما في الحرب العالمية الثانية مثلاً، التي حصدت أرواح الملايين، ودمرت أوروبا كلياً، لكن نُظر إليها من زاوية نتائجها في تغيير المعادلات في العالم. أما في حالة الحرب على اليمن، فيمكن للقوة المالية للرياض أن تسمح لها بتحمل الأعباء، حتى لو على حساب التنمية وقوة الاقتصاد، في حال توصّل الطرفان السعودي واليمني إلى اتفاق سلام. غير أن الحرب لم تنتهِ بعد، وكل ما تم التوصل إليه هو اتفاق لوقف إطلاق النار يُمدّد بشكل غير رسمي كل ستة أشهر؛ وبدل أن تتعلّم السعودية من تجربتها وتتملّص من الضغوط الأميركية وتذهب إلى التوقيع على اتفاقية سلام نهائية، فإنها، وفقاً لـ«معهد استوكهولم»، زادت من إنفاقها العسكري بنسبة 4.3%، إلى ما يُقدّر بنحو 75.8 مليار دولار عام 2023، لتصبح أكبر مشترٍ في الشرق الأوسط، تليها إسرائيل التي زاد إنفاقها هي الأخرى بنسبة 24%، ليصل إلى 27.5 مليار دولار في العام نفسه مدفوعاً بالحرب على قطاع غزة.
على أن الفارق في التسلّح بين السعودية واليمن، أن الأخير يعتمد على خطوط إنتاج محلية تلبي الحاجة الدفاعية في المجالات كافة، وتأخذ في الحسبان اعتبارات مهمة من قبيل الموقع الجغرافي والتضاريس المعقّدة وتفوّق الأعداء في الجو، فيما تبقى العبرة في تنفيذ التكتيكات المناسبة، والتي يتفوّق اليمن في كيفية استخدامها. ومكّنت الصناعات العسكرية اليمنية، والتي قلّل «التحالف» من أهميتها في المراحل الأولى، حركة «أنصار الله»، من تغيير المعادلة العسكرية جوّاً وبرّاً مقابل السعودية وتحالفها العربي والغربي، وبحراً مقابل الولايات المتحدة وبريطانيا، وفرض إستراتيجية توازن ردع جديدة في حرب غير متكافئة. ويقول خبراء إن الاستفادة من التقنيات، وخصوصاً المدمجة (الثنائية الاستخدام) بين المدني والعسكري، سمحت لليمن بالحصول على احتياجاته التقنية وتطويرها، وخصوصاً أنه يمتلك طاقات بشرية هائلة متنوعة الاختصاصات، تشمل خبراء الرياضيات التطبيقية، والإلكترونيات، وهندسة الطيران، والكهرباء، والميكانيك، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها.
وفي المقابل، وخلافاً لما يقتضيه العنصر الأهم في الصناعات العسكرية والمتمثّل في وجود القرار الوطني، فإن معظم دول العالم، وخصوصاً في العالم العربي، تتعرّض لضغوط أميركية تمنعها من توطين الصناعات العسكرية. وتواجه السعودية، على سبيل المثال، تحدّيات كثيرة في هذا المجال، أهمها مقاومة الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا والشركات الكبرى المصنّعة للأسلحة والأعتدة الحربية، لكل مشروع عربي للتصنيع الحربي، لتظلّ محتكرة للسوق العربية، والخليجية بالتحديد. وذلك من شأنه الانتقاص من سيادة الدول وإبقاء تبعيتها وارتهانها، فضلاً عن أن الدول العربية، والسعودية في مقدمتها، تنتهج في مجال صفقات التسلّح مع الغرب، سياسة العلاقات العامة بهدف تعزيز ركائز الحكم فيها.