-0-تلاقت الأزمنةُ وتداخلت حدود الجغرافيا في لحظةٍ واحدةٍ لا تدري فيها إنْ كنتَ شهيدًا أو طريدًا أو أسيرًا! تحاولُ عبثًا فهم الخطّ بين الموت والحياة.
لعلّك في السّجن، ولكن أينَ القضبان؟ وربّما موتٌ، ولكن أينَ القبور؟ وإنْ كنتَ طريدًا، فأينَ المطاردة؟ مَن أنتَ الآن؟ ومن يكون صاحبُ هذا البسطار العسكريّ الجاثم فوقَ صدرك؟ إنْ كانَ لا اسمَ واضحاً لك، فلا اسمَ له.
لنقل إنّكَ كلُّ الضّحيّة وهو كلّ الاستعمار، تصرَّفْ وفقَ هذا؛ فهي لحظة وجودية وإن تداخل فيها الزّمن أو فَرّ، فـ«إمّا أنْ تكون أو لا تكون».
حسنًا... لِنبدأ من البداية.
-1-
«أقسمُ بِشَعبي إنّني...»
قاطعني بسرعةٍ جنونيةٍ، واضعًا بسطاره في فمي، ثمّ أخذَ لحظةً قبل أن يأخذ عبوة كبريتٍ من مكتبه قائلًا:
- «لِنضع شعبك في عبوة الكبريت، فلا تقسم وتكلّم».
أغلقَ العبوة على قَسَمي فأقسمتُ:
- «أقسمُ لكَ بالصّخرِ والتراب إنّني...»
قاطعني مرّةً أخرى، وبدا على وجهه ملامح أوليّة للغضب، ثمّ أخرجَ عبوة الكبريت مرةً أخرى، فتحها وهو يقول: «وها قد وضعنا الصّخرَ والتّراب في عبوة الكبريت... اعترِف».
- «أقسمُ بشعبي إنّني...»
صاحَ في وجهي: «ألم نضع شعبكَ في عبوة الكبريت؟»
- «لقد خرجَ من العبوة عندما فتحتها لتضع الصّخرَ والتّراب».
لعلّه لم يفهم النّكتة، لا أدري ولكنّه غضبَ أو أكثر قليلًا، فصفعني وسقطت أذناي ولم أعد أسمع سوى طنين الصّمتِ، وكانت تلك فرصتي لأقولَ ما أريدُ قوله من دون أنْ يقاطعني، ثمّ أقسمتُ له بكلّ ما آمنت به العرب أنّني لستُ يحيى السّنوار، أمّا اسمي فهو يحيى عشقًا من أبي ليحيى بن زكريا؛ رغمَ غزله العذريّ برقصة سالومي، أمّا ذقني الرّمادية فلم تكن كذلك، فأقسمتُ مجدّدًا ورأيتُ عبوة الكبريت تُفتَح وتُغلَقُ عدّة مراتٍ من دون أنْ أسمع ما يقول «وللهِ إنّ ذقني لم تكن كذلك، وهذا ما تراهُ ليس شيبًا وإنْ كانَ وقارًا، وإنّما هو ركامُ غزّة انهالَ على وجهي فصارَ وجهي رُكامًا».
لكمَني المحقّقُ فتهافتَ الرّكام وغابَ وجهي تمامًا وراحَ يحقّق مع وجهٍ بلا ملامح.
-2-
سَألهُ المحقّق عن مكانِ محمد الضّيف، فاتّسعت عيناه استغرابًا. كرّرَ السّؤال، فاتّسعت عينا الأسير أكثر، كرّرهُ ثلاثًا فاتّسعت أكثر وأكثر. اقتربَ المحقّق ينظر إلى عينيه المتسعتينِ عجبًا، ثمّ اقتلعهما من مكانهما، وبدّلَ سؤاله قائلًا: «فاعترف إذًا أنّكَ هو».
ردّ عليه الأسيرُ بكلّ جديّةٍ:
- «لستُ هو، أمّا هذا الظلُّ وتلك العتمة فهي لانقطاعِ الكهرباء... أشعِل النّور لترى».
رغم ألمِهِ الشّديد وشعوره بالفراغ الغريب مكان عينيه، إلّا إنّه لم يكن يعرف بأنّه قد أعمى بصره، ولكنّه يعرف جيّدًا أنّه ركل خصيتيه لحظتها حتى تدحرجتا إلى أن ارتطمتا ببسطاره العسكريّ وانفجرتا.
تمّ الانفجارُ مع سابق الإصرار والترصّد، وصدرَ الحكم من دون أن يرى قاضيًا أو نيابةً أو محاميًا.
-3-
من أينَ جاءَ الصّوت؟ ما هذا السّوادُ الحالكُ حولي؟ ما الزّمنُ الآن؟ كلّ ما أتذكّرهُ أنّني تذكّرتُ شيئًا، فحاكموا ذاكرتي ومسحوها... تذكّرتُ أوّل الطّوفان، وكتبتُ على جدارِ مستشفى الشّفاء «تذكّروا، تذكّروا السّابع من أكتوبر» وهدموا الجدارَ فوقي، وربّما أطلقوا النّارَ عليّ، وربّما قتلوني، ولكنّني نسيتُ أن أموت، فقد غدوتُ كثير النّسيان، ممسوح الذّاكرة «أو هكذا قيل لي».
ما الزّمنُ الآن؟ هل ستطلعُ الشّمسُ دورةً أخرى، فيمضي يومٌ فوقَ يومٍ ويصير لي زمني؟ أم أنّ هذا الظّلام طويلٌ ولا وقت؟ وهذا الصّمتُ الثّقيل ألا يخرس؟ ألا يخبرني أحدٌ بالحقيقة؟ كلّ ما أتذكّرهُ أنّني تذكّرتُ الحروب السّابقة، وفي كلِّ حربٍ فقدتُ شيئًا من جسدي، وعوّضني امتلاءٌ آخر، هو امتلاء القلب.
وها أنا ذا، لا أمتلكُ سواهُ يخبرني الحقيقة.
ألا تصمِت وتكفّ عن الأسئلة؟ إنّكَ تدري وإنْ كنتَ لا تتذكّر... ألا تراهُ يبذل كلّ ما في وسعه من قتلٍ وتدميرٍ ليمحو 7 أكتوبر من ذاكرتك، في حين يبذل ما في وسعه من خطابٍ واستجداءٍ ليذكّر العالم بـ«مأساة» 7 أكتوبر؟ فعلى أيّ الجانبينِ يميل؟ هل يمحو التّاريخ أم يخلّده؟
مِن أينَ جاءَ الصّوت؟ ها أنا ذا أسمعهُ مجدّدًا... أهوَ صوتُ القلب يخبرني بالحقيقة؟ فتذكّروا إذًا...
دخلَ أسيرٌ إلى الزّنزانة قبل أن يجدوا له تهمة، فوجدَ على أرضها قلبًا يوقظُ جسده، وعلى جدارها عبارة واحدة، قرأ فتذكّر، فتحقّقت التّهمة، فهدموا الجدار عليه، وظلّت العبارة واضحةً:
«تذكّروا، تذكّروا الخامس عشر من أيّار 48».
-4-
تَهاوَت عينه في يدي، هي ذي، انظُرْ ما أغربها، أرأيتَ مثلها من قبل؟ كُفّ عن الضّحك فابنتي لم تتِمَّ عامها السّابع بعد، وقد طلبت منّي في عيدها أنْ أجلبَ لها حيوانًا لم تَرَهُ من قبل، ولكنّ إدارة السّجنِ تحرمني من اصطحابه معي، ما أشدّ ظلمهم!
حسنًا سأجلبهُ لها بالتّقسيط، لقد عرفتُ منذ اللحظةِ الأولى أنّه بقايا كائنٍ ممّا قبل البشريّة، حتّى قبلَ أن أرى هذي العين الغريبة، وقد أجريتُ عليه عدّة اختباراتٍ آدميّة، وضعتُ فيشة الكهرباء في أذنه، فقالَ لي «لا أسمعكَ جيّدًا». ولمّا حرمتُهُ وصحبته من الماء، لم يمت، فوضعتُ رأسه في برميل ماءٍ وشربه كوحشٍ بدل أن يتألّم. هل ثمة ما هو أغرب؟
ستفرحُ ابنتي بعينه، وسأصفُ لها كيفَ انتزعتها من وجه الوحش البدائيّ.
-5-
فتحوا بابَ الزّنزانة وقاموا بإلقاءِ أسيرٍ فوقَ أسيرٍ يتّكئُ على أسيرٍ يمسكُ بيدِ أسيرٍ يهمسُ بأذنِ أسيرٍ: «سنتحرّرْ»، ولمّا طلعَ الصّبحُ، كانت آلافُ الأجسادِ مكّومةً في الزّنزانة.
ستقول إنّها لا تتّسع.
ما شاء الله. أنتَ عبقريّ. تقول إنّها لا تتّسع، وتظنّ أنّني لا أدري؟ معكَ ألف حقٍّ، فالزنزانة الضيّقة النتنة ذات الجدران الرطبة المتعفّنة، تنامُ حيثُ تبول وتبولُ، حيثُ تأكل وتأكل، حيثُ تجلس لا يمكن أن تتسع لأكثرَ من شخصٍ وعشرة صراصير وآلاف الحشرات تشغل الفراغ إنْ وُجِد.
أرأيتَ أنّني أعرف يا عبقريّ زمانك؟ ولكن تخيّل معي، أو حاوِل أن تتذكّر.
هل تذكّرت؟
كنتَ وحدكَ تسألُ عن الزّمن تائهًا عن الحقيقة، سقطَ عليكَ رجلٌ مفقوء العينينِ، ثمّ فُتِحَ الباب، وألقوا بآخر، حتّى كلّما جلبوا أسيرًا اتّسعت الزّنزانة لتتسعَ لأسير آخر، ولمّا جلبوا آلافَ الأسرى اتسعت الزّنزانة حتّى صارَت...
لا أدري، ماذا يمكن أن تصير؟ ما اسمُ هذا المكان الّذي يتّسعُ لآلافِ الرّفاق؟ أهوَ مكانٌ وفيه زمان؟
ما الزّمنُ الآن؟
■ ■ ■

يا أيّها القارئ تمهّل، ولا تلقِ بجام غضبكَ عليّ لأنّني لم أتقن سردَ الحكاية، فلا الزّمنُ واضحٌ هنا ولا المكان، ولا أدري كيفَ تسيرُ القصّة ومن هم شخوصها؟ كلّ ما أعرفه أنّنا عدنا للحظةِ الأولى حيث تذوبُ الجغرافيا، فألتقي أنا الغزّاويّ الّذي عشتُ ما عشت من الحروب بابنِ جنين الّذي راحَ يقصّ عليّ قصص المخيّم، وعلى يساري عكّاويٌّ أطلقَ النّارَ على «البوليس» في هبّة أيّار، وبجانبي صاحبُ الذّاكرة الّذي تذكّر، وأمامي الوجهُ الحالمُ الّذي استعادَ ملامحه أخيرًا، وحولنا آلافُ الرّفاق وقد صرتُ بينهم وصرنا نتّسعُ فيتّسعُ السّجن أو يُكسَر «فطوبى لِمَن يتّسعون»(1)، ولم نجد إلّا تبادل الحكايات والحلم والغناء، حكايةُ تلاقينا نحنُ الّذينَ لم نتخيّل يومًا أن نلتقي، ها نحن نلتقي هنا في السّجن، حُلمُ تَحرّرنا نحنُ الّذين لم نتخيّل يومًا أنّ الحلمَ بالحريّة ممكنٌ، والكثير من الغناء، يبدأُ همسًا كي لا يسمعنا السّجانُ وما أن نتذكّرُ أنّنا أكثرُ منه عددًا وأشدّ إيمانًا حتّى يعلو غناؤنا:
«أنا الآن بينَ مئات الرّفاق
أضمّ لقبضاتهم قبضتي
أنا الآن أشعرُ بأنّي قويّ
وأنّي سأهزمُ زنزانتي» (2)
انتهت
(بعد نصف عامٍ على حرب الإبادة)

(1) من «الضوء الأزرق» لحسين البرغوثي
(2) من قصيدة لمعين بسيسو

* قاصّ وكاتب مسرحي فلسطيني، وطالب ماجستير في جامعة بيرزيت