منذ التسعينيات، اتّخذت العلاقات بين البلدين منحىً يمكن وصفه بالسريّ والمتناقض
ظلّت العلاقات الأميركية - السودانية، طوال تاريخها، متأرجحةً ما بين سياستَي الاحتواء والمواجهة، واتجهت نحو مراحلها الأسوأ اعتباراً من تسعينيات القرن الماضي تزامناً مع فرض أميركا عقوبات اقتصادية شاملة على البلاد. تعزّزت هذه العلاقات بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق إبراهيم عبود في عام 1958، والذي زار واشنطن للحصول على معونات اقتصادية. أطيح الحكم العسكري في انتفاضة شعبية عام 1964، ما أدى إلى توتّر في العلاقات بين البلدين، وصل حدّ القطيعة إثر اندلاع حرب الـ1967. وفي بدايات انقلاب أيار/ مايو عام 1969 وحتى عام 1971 كانت علاقات السودان مع الإدارة الأميركية سيئة بسبب انحيازه إلى المعسكر الشرقي، وتبنيه لسياسات مناهضة للرأسمالية. بعد فشل المحاولة الانقلابية عام 1971، غيّر النظام توجّهه، وعزّزت أميركا في تلك الفترة وجودها السياسي والأمني والاقتصادي. ومِن نتائج توطيد العلاقات أن دخلت شركة «شيفرون» الأميركية للاستثمار في مجال النفط، إضافة إلى تدفّق المعونات الأميركية. ظلّت العلاقات جيدة في عهد الرئيس جعفر نميري، لكنّ فجوةً ظهرت بعد تولّي حكومة الصادق المهدي مهماتها في عام 1985. واعتباراً من عام 1988، فُرضت عقوبات أميركية على السودان نتيجة لتراكم المتأخرات وعدم سداد الديون، وجُمِّدت كلّ المساعدات الاقتصادية والعسكرية في عام 1990، استناداً إلى قانون يمنع الاستيلاء على السلطة بواسطة انقلاب عسكري!
منذ التسعينيات، اتّخذت العلاقات بين البلدين منحىً يمكن وصفه بالسريّ والمتناقض؛ ففي أوجّ مساعي واشنطن إلى عزل الخرطوم، حافظت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بصمت، على علاقاتها مع النظام، مستفيدةً من التعاون الاستخباراتي في حربها المتصاعدة ضد «الإرهاب» في شرق أفريقيا. ولمّا تدخّل «الأطلسي» في ليبيا عام 2011، قدّم السودان معلومات استخباراتية إلى الحلف، وأصبح قناة لنقل السلاح إلى معارضي العقيد معمر القذافي، وفقاً لتقارير أميركية. حين قطعت الخرطوم علاقاتها الاستخباراتية بواشنطن في عام 2015 (لأسباب لا تزال غير واضحة)، دفع مسؤولو إدارة أوباما، بقيادة مدير «سي آي إيه»، جون برينان، إلى التقارب بين البلدين، لتظهر عقب المداولات خطة لرفع العقوبات الأميركية عن السودان وإزالته من قائمة «الإرهاب» في مقابل شروط، من بينها: التعاون في مكافحة الإرهاب، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، وغيرهما من أولويات الإدارة الأميركيّة. تبنّى أوباما الخطّة، وحذا ترامب حذوه بعد توليه منصبه. كانت تلك واحدة مِن مبادرات أوباما القليلة في السياسة الخارجية التي لم يفكّكها ترامب.
لكن كغيرها من القضايا في عهد ترامب، تعثّرت سياسة السودان بفعل الفوضى في صنع القرار، إلى جانب الشواغر في مناصب رئيسة في المؤسسات الحكومية الأميركية. وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، سعى إلى إلغاء منصب المبعوث الخاص إلى السودان وجنوب السودان التابع للوزارة كجزء من حملته لـ«إصلاح» الوزارة، بينما ظلّت وظيفة مسؤول «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» في أفريقيا شاغرة لسنوات. طوال الوقت، عمل مسؤولون أميركيون لإدراج السودان ضمن أجندة السياسة الخارجية لرئيس وصف عام 2018 الدول الأفريقية التي تُرسل مهاجرين إلى الولايات المتحدة بأنها «حُثالة».