غزة | جار الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة على من جارت عليهم الحياة، فهو لم يستثن في استهدافاته العشوائية والمقصودة للمدنيين شريحة ذوي الإعاقة أو من يعانون أمراضاً نفسية. من هؤلاء محمد مطر (38 عاماً) الذي كان يداوم على الذهاب إلى مقبرة دفن فيها أخوه، بصورة يومية، لكن صاروخاً من طائرة استطلاع إسرائيلية ألحقه به، فغسل قبر أخيه بدمه بدلاً من الماء في اليوم السادس عشر من الحرب.
كان محمد يذهب إلى القبر ليسقيه بالماء ويضع الورود عليه، وسبب مداومته على ذلك تأثره كثيراً باستشهاد أخيه الأكبر ماجد في صيف 2007 برصاص الاحتلال شرق مدينة غزة. فالأخير كان قبل استشهاده يرعاه ويهتم به كثيراً.
رغم مرور أسابيع عدة على استشهاد محمد، الملقب بـ«الشرش»، فإن أبو عوض، الأخ الأكبر، لا يستوعب فقدان أخيه. يقول: «كان مسالماً يحبه الجميع... ذهب كعادته لزيارة أخيه، لكنهم قتلوه». ويذكر أبو عوض (45 عاماً) أنه حاول منع أخيه من الذهاب إلى المقبرة الواقعة في منطقة بيت لاهيا شمال القطاع خوفاً عليه، لكن محمد كان يردد: «ماجد بستنا بده مية لازم أروح له ليزعل مني»، فغافل أهل المنزل وخرج من دون أن يشعروا به.
بعد دقائق، دوى صوت انفجار قريب وأعلنت وسائل الإعلام استهداف شخص في مقبرة بيت لاهيا، ليشعر أبو عوض بغياب أخيه ويصرخ: «محمد هناك... قتلوه». ما إن وصل هناك، حتى وجد المسعفين يلملمون بقايا جسد محمد التي تناثرت على قبر أخيه ماجد، ليصبح في اليوم نفسه جاراً له في القبر ويحمل اسم شهيد.
لم يكن مطر الأول من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي تغتاله إسرائيل. فمع الأذان الأول من فجر اليوم الرابع من العدوان على غزة، ارتكب الاحتلال تجاوزاً خطيراً بحق أربع فتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة بعدما أسقطت طائرة حربية من نوع F16 صاروخين على جمعية مبرة فلسطين للمعاقين في بيت لاهيا.
إلى جنوب القطاع، هناك أيضاً لم يبق من جسد غدير أبو رجيلة (18 عاماً)، وهي من سكان بلدة خزاعة، إلا كرسيها المتحرك. كان الكرسي مهشماً وبجانبه أشلاء من جسدها المتحلل لأن المسعفين لم يتمكنوا من دخول البلدة إلا بعد عشرة أيام من استهدافها.
لم تتمكن أبو رجيلة من الخروج برفقة عائلتها والمئات من سكان بلدتها المحاصرة في ثاني أيام الاجتياح البري على البلدة، كما أصيب شقيقها وهو يدفع بكُرسيها إلى الأمام بعيار ناري بيده، أطلقه قناص إسرائيلي كان يعتلي منزلاً مجاوراً لمكان سيرهم على مقربة من مدخل البلدة. حدث ذلك، كما يقول أخوها غسان، أثناء محاولتهم الخروج وهم يحملون الرايات البيضاء، فأصيب بجراح بالغة، فيما استشهدت أخته.
يضيف غسان: «بقيت أختي غدير أمام الدبابات تجلس وحدها مُنتصف الطريق، ولا أحد يعلم عنها شيئاً، حتى وردنا اتصال من شخص قريب في المنطقة بأن صاروخاً سقط عليها وقطعها أشلاء».
مع مرور الوقت، كان جسد الصبية المعاقة يتحلل ورائحته تفوح في المكان، لكن كرسيها المتحرك الذي لازمها منذ الصغر ظل واقفاً وشاهداً على الجريمة.
بعد تمكن غسان وأشقائه من دخول البلدة صبيحة اليوم الذي أعلنت فيه تهدئة إنسانية لمدة 72 ساعة، وجد الأخ الأكبر نضال (30 عاماً) جثة غدير ملقاة على الأرض، فوضع غطاء على جسدها وجلس بجوارها يبكي.
أيضاً، لم يشفع جسد أحمد الأعور (20 عاماً) المنهك من الإعاقة لدى جيش الاحتلال عندما أسقطت طائرته صاروخاً على المبنى الذي يقطن فيه الشاب، ولم يستطع المغادرة لأنه كان يعاني إعاقة تمنعه من الحركة، فقضى شهيداً واستخرج من تحت الركام.
قصة مشابهة تكررت مع الطفلة الكفيفة شهد القريناوي (7 سنوات) التي كانت تلهو برفقة شقيقتها سلوى داخل بيتها في منطقة النصيرات وسط القطاع، ولم تكن تدري أن الباب الذي يحميها سيطبق عليها بفعل الضغط الناجم عن قصف سيارة بجواره، فأصيبت الطفلة بجروح خطيرة في جسدها النحيل.
يقول والدها جهاد إنه ترك بناته الصغيرات يلعبن داخل البيت، وبعد خروجه قُصفت سيارة تابعة للبلدية، فطار باب البيت بفعل القصف وارتطم مباشرة بطفلته شهد، إضافة إلى سقوط حائط منزله، ما أسفر عن إصابة ابنته الأخرى سلوى.
من دون وعي أو إدراك، جاء الأب وحمل طفلته شهد، فيما رفعت ابنته الكبرى شقيقتها سلوى، وذهبوا جميعاً إلى مستشفى شهداء الأقصى الذي يبعد نحو 500 متر من دون وجود لسيارات الإسعاف. من هناك، جرى تحويل شهد إلى مجمع الشفاء الطبي لخطورة حالتها حتى أعلن استشهادها بعد محاولات كثيرة لإعادة عمل قلبها الذي توقف.
تعقيباً على هذه الجرائم، قال رئيس الاتحاد العام للمعاقين في غزة، عوني مطر، إنهم ملوا من استمرار حالة الصمت الدولي تجاه جرائم الاحتلال في غزة، مطالباً المؤسسات الحقوقية والدولية بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، «واتخاذ إجراءات فعلية لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد المدنيين عموماً، والأشخاص ذوي الإعاقة خصوصاً».
وأوضح مطر لـ«الأخبار» أن الجرائم الإسرائيلية فوق تخطيها حدود المنطق والإنسانية، أخلّت بالاتفاقات والمواثيق الدولية، «ومنها اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في المادة الحادية العشرة لحالات الخطر والطوارئ الإنسانية، إذ تنص على أن تتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النزاع المسلح والطوارئ الإنسانية والكوارث الطبيعية.