جدّد حادث قتل والي غرب دارفور، خميس أبكر، والتمثيل بجثّته وبثّ ذلك في مقطع مصوّر (14 الجاري) المخاوف إزاء اتّساع رقعة النزاع في السودان وتزايد حدّته، في ظلّ الحديث عن تحرّك إماراتي عاجل (مدعوم هذه المرّة بموافقة سعودية، ومتزامن في ما يبدو مع تراجع «تكتيكي» مصري عن دعم رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، على رغم استقبال نائبه مالك عقار في 17 الجاري) لنجدة معسكر قوات «الدعم السريع»، إمّا بتسليحه عبر وسطاء إقليميين، أو استمالة دول جوار «غير عربية» لتبنّي مواقف مغايرة. وكشفت تحرّكات البرهان الأخيرة، ولا سيما لجهة رفْضه (باسم السودان) تولّي كينيا رئاسة رباعية «إيغاد» المكلّفة بجهود الوساطة وحلّ الأزمة السودانية بمقتضى مخرجات القمة الطارئة الأخيرة في جيبوتي (12 حزيران)، عن تعزيز الخرطوم مواقفها المستقلّة عن ضغوط القوى الإقليمية والدولية في إدارة الأزمة.
خريطة طريق «إيغاد»: لا جديد
تبنّت قمّة «إيغاد» الـ 14 في جيبوتي ما وصفه بيانها الختامي بـ«خريطة طريق لتسوية الصراع في جمهورية السودان» عبر وضْع أربع نقاط رئيسة للتحرّك: شمول إثيوبيا كعضو رابع في وفد «إيغاد» رفيع المستوى لعملية السلام في السودان؛ أن يتولّي الرئيس الكيني، وليام روتو، رئاسة الرباعية التي تقرَّر أن تواصل العمل عن كثب مع مفوضية «الاتحاد الأفريقي»؛ أن تنظّم الرباعية «في غضون عشرة أيّام» (تنتهي في 22 الجاري) لقاءً مباشراً بين البرهان و«حميدتي» في «إحدى العواصم الإقليمية»، على أن يلتزم الجانبان بإقامة ممرّ إغاثة إنسانية؛ وأن يُصار، في غضون ثلاثة أسابيع، إلى إطلاق عملية سياسية شاملة «من أجل تسوية الصراع في جمهورية السودان».
وفيما لم تسهم مخرجات «إيغاد»، بعد أسبوع من إطلاقها، في تحقيق أيّ اختراق، بادر البرهان ووزارة الخارجية السودانية (15 حزيران) الى إعلان رفضهما الرسمي لقيادة كينيا - وثيقة الصلة بإثيوبيا بعد نهاية أزمة إقليم تيغراي - لرباعية «إيغاد»، ما أثار، إلى جانب عوامل أخرى، تساؤلات عميقة حول مستقبل المبادرة برمّته، فضلاً عن كيفيّة صياغتها في غياب التشاور مع ممثّل السودان في القمّة، مالك عقار، والذي جاء متبوعاً باتّهام كينيا نفسها بعدم الحياد في النزاع وإيواء عناصر من «الدعم»، وتجديد المطالبة باستمرار الرئيس الجنوب سوداني، سلفا كير، رئيساً لآلية «إيغاد». كذلك، فإن النظر في خريطة طريق «إيغاد» يكشف قصورها من نواح عدّة: فَضَمُّ إثيوبيا إلى المبادرة يُعدّ بمثابة ترضية «غير ملائمة» (توقيتاً ودلالة) لها، بسبب ممارستها تدخُّلاً حسّاساً في الشأن السوداني. وهو موقف لم تستطع القيادة السودانية التعبير عنه راهناً، لكنها وجدت في رفضها الدور الكيني والتمسُّك بقيادة جوبا ردّاً ملائماً. كما أن تعهُّد الخريطة بعقد اجتماع مباشر بين البرهان و«حميدتي»، في غضون عشرة أيام، (انقضى منها نحو سبعة أيام، وسط تصعيد غير مسبوق) كشف - وإن بصورة غير مباشرة - وجود تنسيق كبير بين أطراف الرباعية (ولا سيما كينيا وإثيوبيا) مع «حميدتي»، ووجود رغبة قويّة في إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 15 نيسان. وجاء البند الثالث من الخريطة، أي إقامة ممرّ إغاثة «خلال أسبوعين» باعتباره تحصيل حاصل، كونه لا يعبّر عن قدرة على اختراق الأزمة جديّاً، ولأنه مرهون في الأساس بتحقيق تفاهمات لم تتمّ بعد. أمّا آخر بنود خريطة الطريق، فقد قفز إجمالاً فوق طبيعة الأزمة في السودان وما أحدثته من خلل واضح في مسار المرحلة الانتقالية برمّتها، ووضْع هذا البلد أمام خيارات صعبة وتداعيات كارثية يستحيل معها إطلاق «عملية سياسية شاملة» في غضون ثلاثة أسابيع، ما يجعل الجدولة بذاتها مسألة هزليةً يُستغرب صدورها عن منظمة إقليمية فرعية إزاء واحدة من دولها الأعضاء، ولا يمكن تفسيرها - حال جدّيتها - إلّا كرغبة أصيلة في إسناد قوات «الدعم السريع» بظهير سياسي إقليمي للعودة إلى المشهد السياسي السوداني كقوّة رئيسة وفاعلة.

المقاربات الخليجية: بين الاحتواء وحصار السودان
غطّت أحداث العنف في السودان على نبأ عودة إريتريا إلى «إيغاد»، خلال القمّة الأخيرة، بعد 16 عاماً من انسحابها. وعلى رغم هذا الفارق الزمني، فقد جاءت كينيا كهمزة وصل «رمزية» بين قرار إريتريا الخروج من المجموعة عقب رفض الأولى (2007) تفويض «إيغاد» لكينيا لمراقبة تسوية النزاع الحدودي بينها وبين إثيوبيا، ورفْض السودان الأخير تولّي كينيا آلية «إيغاد» الرباعية؛ وهو رفض ربّما يتطوّر إلى قرار سوداني بالخروج من المجموعة، في حال عدم جدّية مقاربتها لأزمته واحترام سيادته. وفي ما يتّسق مع ذلك، فإن قرار إريتريا العودة إلى «إيغاد» وفتح الطريق أمام التعاون الإقليمي يعني، في صلته بالسودان، توجّهاً خليجياً نحو تهميش السودان وعزله داخل أزماته، مع إعادة طرْح أفكار التعاون الخليجي مع إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا.
وجاء تحرّك أبو ظبي نحو جارة السودان الغربية، تشاد، ليثير مخاوف حقيقية لدى مراقبين سودانيين موالين لـ«مجلس السيادة» والقوات المسلحة؛ إذ استضافت الأولى رئيس تشاد الانتقالي، محمد إدريس ديبي (14 حزيران)، الذي شهد مع الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، توقيع العديد من الاتفاقات ومذكّرات التفاهم، من بينها اتفاق قرض بين تشاد و«صندوق أبو ظبي للتنمية»، ومذكّرتا تفاهم في مجالَي الطاقة والتعدين. وعلى رغم أن المقاربة الإماراتية تأتي في سياق سياسات أبو ظبي لتعزيز نفوذها في إقليم الساحل، فإن توقيت الزيارة وما تردّد عن حجم القرض والاستثمارات الإماراتية (قدّرت، بحسب مصادر متنوعة، بحوالي 1.5 مليار دولار) عزّز مخاوف تبنّي تشاد موقفاً محايداً في الأزمة في السودان، وذلك على رغم تعلّق مصير ديبي الابن، الذي ينتمي إلى قبيلة الزغاوة، جزئيّاً، بقدرة الجيش السوداني على هزيمة «حميدتي»، والحيلولة دون تمترس الأخير في غرب دارفور، ومن ثم استنزاف الأمن التشادي على المدى البعيد.
يمكن فهم المقاربة الخليجية في ضوء مسارَي احتواء السودان وإعادة السيطرة الكاملة على قياداته


في المقابل، بادرت السعودية الى الإعلان عن عزمها استضافة مؤتمر دولي لمساعدة السودان «والإقليم» (19 حزيران) بالتعاون مع مصر وقطر والاتحاد الأوروبي ووكالات في الأمم المتحدة. وجاء الإعلان بعد ساعات من إعلان الخارجية الأميركية (13 حزيران) فشل جهودها مع السعودية لحلّ الأزمة في السودان، وإنْ أنحت باللائمة على الجيش السوداني و«الدعم السريع»، و«عدم استفادتهما من فرصة محادثات جدة». كما تضمن الإعلان إشارة إلى عزْم واشنطن، بالتنسيق مع «السعودية ودول عربية وأفريقية أخرى»، على التزام مقاربة جديدة، خلال الأيام المقبلة، ما يلقي مزيداً من الشكوك حول مستقبل عملية «إيغاد» أو جدّيتها وربّما فهمها كوساطة «انتقالية»، قبل العودة إلى وساطة أميركية - سعودية موسّعة هذه المرّة.
كذلك، جاء إعلان الرياض - وليس واشنطن هذه المرّة - عن هدنة جديدة بموافقة «طرفَي الأزمة»، مدّتها 72 ساعة (بدأت صباح أمس)، بالتزامن مع هذا المؤتمر، ليشير إلى تمسُّك السعودية بتصدُّر المشهد في وساطات الأزمة السودانية، من دون إظهار أيّ قدرة حقيقية على تقديم وساطة جادّة وواضحة في تسمية الحالة الراهنة بمسمّياتها. على أيّ حال، فقد شهدت مناطق الصراع المتفرّقة في السودان، ولا سيما الخرطوم والجنينة، هدوءاً نسبياً في الساعات الأولى للهدنة، مع ملاحظة توجّه الجيش إلى تعزيز مواقع في الأحياء المجاورة لمطار الخرطوم الدولي، من دون أن يقود ذلك إلى ردّ فعل من جانب قوات «الدعم» التي سيطرت على المطار مع بدء الصراع.
وهكذا، يمكن فهم المقاربة الخليجية، التي باتت متطابقة ومتكاملة تماماً بين قطبَيها الرياض وأبو ظبي، في ضوء مسارَي احتواء السودان وإعادة السيطرة الكاملة على قياداته عبر العودة إلى سياسة المساعدات المشروطة لتحقيق اختراقات سياسية موجهة، ومسار حصار السودان بتمتين العلاقات مع دول طوقه (كما في حالتَي إريتريا وتشاد أخيراً، مضافاً إليها الصلات الاستراتيجية بين إثيوبيا ودول الخليج بشكل عام، والطبيعة الهشّة للأوضاع في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى)، بهدف فرض ضغوط وازنة على الجيش السوداني وقيادته وخياراتها تجاه الأزمة الحالية.

الأزمة في الشهر الثالث: ما الخيارات السودانية؟
أثار حادث اغتيال والي غرب دارفور، خميس أبكر، وهو من ضمن الشخصيات السياسية التي وقّعت على «الاتفاق الإطاري» نهاية عام 2022، حالة متجدّدة من الجدل السياسي السوداني، معيداً رسم استقطاباته ومواقف «القوى المدنية» من الصراع الدائر. ويلاحَظ بداية تفادي أحزاب وقوى سياسية مهمّة (أبرزها «الحرية والتغيير» بطيفها المتنوع) الإشارة إلى الحادث ومرتكبيه (حتى بعد ثبوت إقدام «الدعم السريع» على الجريمة)، إذ فضّلت إدانة العنف بشكل عام والدعوة إلى تدخُّل وتحقيقات دولية موّسعة، في تطابق مع بيان «الدعم» (15 حزيران)، قبل أن تعود بعدها بساعات لإدانة «ميليشيات الدعم السريع».
وباتت مخاوف انتقال الحرب فعليّاً إلى مدن غرب دارفور، وتعمُّق الأزمة الإنسانية في مدينة الجنينة قرب الحدود مع تشاد، دالةً على فعالية التدخلات الخارجية في الأزمة وعدم حسْمها لمصلحة استقرار السودان ومؤسّساته، ما يدفع نحو توقُّع سيناريو استمرار حالة الأزمة. كما سيظلّ الخيار السياسي محدوداً للغاية في ضوء تصاعُد العمليات على الأرض وعدم طرْح الأطراف الإقليمية والدولية مبادرات جادّة وحقيقية لحسم الصراع (أو على الأقلّ تبنّي رؤية واضحة للأزمة باعتبارها تهديداً لسيادة دولة)، وربّما تجميد وضع الأزمة الراهنة، مع ملاحظة أن كل المبادرات المطروحة ترتكز على مبدأ معاملة الجيش وقوات «الدعم» كطرفَين متكافئَين، وضرورة العودة إلى حدود 15 نيسان، ومن ثم إسناد «الدعم» بهامش مناورة ضخم لمواصلة تحدّيها للجيش.