بفيض من الطلاقة والهدوء، أجاب الشهيد طارق عز الدين، سؤالاً سابقاً لصاحب هذه السطور حول جدوى النسق العسكري الذي تنتهجه «كتيبة جنين»، والذي يفضي إلى خسارات بشرية متتالية وصعبة في صفوف الكادر المقاوم. كان السؤال: «إذا كان الاغتيال قادماً حتماً، فلماذا لا تُستغلّ الطاقات في تنفيذ عمليات دقيقة ومركّزة، عوضاً عن المشاغلة، وخصوصاً أن العمليات تحقّق الرغبة الشعبية في قتل جنود ومستوطنين، وتزيد من تكلفة الاستيطان؟»، فأتى الجواب: «إن دور جنين في معادلة الضفة الغربية يتجاوز تنفيذ عملية أو قتل جنود فقط، هذا المخيم الصغير هو مؤشّر حياة المقاومة في المدن كافة، هو الحافز والحياة والباعث ليعمل الجميع. لو لم تأخذ جنين زمام المبادرة، لما انخرطت نابلس وأريحا وجبع وطولكرم في المعركة (...) من المهمّ أن تبقى جنين حاملة للواء، ومن خلفها يسير الجميع». قبل انطلاق كتيبة جنين في أيلول 2021، كان طارق عز الدين ورفاقه قد أعادوا ترميم الإطار الاجتماعي للمقاومة. يقول الرجل حول هذا الموضوع: «كان الشبّان المبادرون في إعادة بناء المقاومة في المخيم، أو الذين فكّروا في تنفيذ فعل فردي ضدّ الاحتلال أفضى إلى اعتقالهم، ينهون مدّة سجنهم، وتتحمّل عائلاتهم عبء دفع مئات آلاف الشواكل، عبر بيع الذهب والممتلكات، لتسديد الغرامة التي يفرضها الاحتلال مقابل إطلاق سراحهم عقب الاعتقال، غير أن هذا الحمل الكبير لم يقنع أحدهم بأن لا يشتهي حمل السلاح مجدّداً». وفي تشريح أعمق لواقع الضفة الغربية ما بعد الانتفاضة الثانية، وما بعد حقبة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وتحديداً في عهد الرئيس محمود عباس ورعاية الجنرال الأميركي كيث دايتون، احتفظت جنين بقصب التمايز. فبينما كانت خطوات الاحتلال المتسارعة لعزل الجيل الفلسطيني الجديد عن الهموم العامة والوطنية، ودفعه إلى التمحور حول هموم الذات، قد وصلت بين عامَي 2010 و2014 إلى حدود السماح للمقاومين السابقين بالعمل في الداخل المحتل، والحصول على امتيازات السفر، بعد توقيع «كتب استرحام» لدى «المنسّق الإسرائيلي»، يشطبون فيها تاريخهم النضالي، ويتعهّدون بموجبها بعدم العودة إلى حمل السلاح مجدّداً، كان «الجيل المقاوم الجديد» في جنين، يحاول بقدر ما يستطيع إحياء الحالة المقاومة. ولذا، لم يشكّل مؤسّس «كتيبة جنين»، جميل العموري، استثناءً في المشهد، يومَ باع سيارة الأجرة التي يعمل عليها ليعيل أسرته، واشترى بدلاً منها بندقية، منبئاً بأن الاستثمار الإيجابي في حالة المقاومة في المخيم سيقود إلى نتائج تعوّض 15 عاماً من الاصطدام بواقع ما بعد الانتفاضة والانقسام.
العمليّة، رغم أنها الأكبر منذ عملية «السور الواقي» في عام 2002، لا تزال في مرحلة «جسّ النبض»


وجهة النظر الإسرائيلية من وراء العملية العسكرية التي بدأها جيش الاحتلال فجر أمس، عبّر عنها مسؤول سياسي إسرائيلي في حديث إلى قناة «كان»، قال فيه: «الهدف من العملية العسكرية هو إنهاء مكانة جنين كمدينة ملاذ للإرهاب». وتشي المشاهد التي خلّفتها الساعات الأولى من الهجوم برغبة إسرائيلية في إعادة إنتاج مشاهد الاجتياح الكبير للمخيم في عام 2002: العشرات من السيّارات المحروقة، قصف بوابة المخيم ومسجد الشهيد محمود طوالبة، تجريف الطرقات وهدم البنى التحتية. ويعني ذلك أن المقصود يتجاوز المنجزات المادية المتمثّلة في تدمير ورش تصنيع العبوات، أو إجهاض محاولات إنتاج الصواريخ، إلى التأثير على العقول، وتحميل الحاضنة الاجتماعية للمقاومة عبء احتضان الشبّان المقاومين.
على نطاق أوسع، لم تغب إيران و«حزب الله» عن المهداف؛ إذ تَكرّر الحديث على ألسنة المحلّلين الإسرائيليين عن حجم الدعم الإيراني للضفة الغربية. وفي هذا الاتجاه، وفي ما بدا محاولة للحصول على غطاء أميركي للحدث، صرّح السفير الإسرائيلي في واشنطن، مايك هرتسوغ، بأن «جنين أصبحت معقلاً لإيران، ولن نقف مكتوفي الأيدي عندما يتأذّى مواطنونا». كذلك، رأى الكاتب الإسرائيلي في صحيفة «معاريف»، آفي يسسخروف، في مقال حمل عنوان «إيران فرع جنين»، أن العملية الجارية في جنين ستوفّر الأمان لعدّة أسابيع، ولن تكون مجدية في القضاء تماماً على ظاهرة المقاومة، بالنظر إلى أن «إيران وحزب الله اختارا العمل في ساحة الضفة، عوضاً عن الساحات الخارجية، وهما يسعيان لملء أيّ فراغ تتركه السلطة»، مضيفاً إن «العامل المنجز والمؤثّر في المشهد هو دعم الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لاستعادة دورها الذي ظلّت تمارسه منذ عام 2006».
على أن تلك العملية، رغم أنها الأكبر منذ عملية «السور الواقي» في عام 2002، حيث زجّ فيها جيش الاحتلال بلواء عسكري كامل (7000 جندي ومئات الآليات وسلاح الجو والدبابات)، فيما رجّح مسؤول أمني إسرائيلي أن تستمرّ لـيومين أو ثلاثة أيام، أي أن تكون أكبر من اجتياح وأقلّ من عملية واسعة، لا تزال في مرحلة «جسّ النبض»؛ وبالتالي، فإن توسّعها أو انتهاءها مرهون بما ستخلّفه من ردة فعل، سواء في مدن الضفة الغربية الأخرى أو في قطاع غزة.