يبدو أكيداً أن الهدنة والتبادل الجزئي للأسرى مع حركة «حماس»، فُرضا فرضاً على قيادة العدو التي كانت ترفضهما ابتداءً، وذلك بدفع من مجموعة عوامل ساهمت في إنضاجهما وإخراجهما إلى حيّز التنفيذ. وهي عوامل تتقاطع جميعها عند كونها مؤشّراً كاشفاً إلى عجز العدو وفشله في تحقيق السقوف العالية التي رفعها في بداية الحرب. ولعلّ العامل الرئيسيّ والتأسيسي في تلك النتيجة، يتمثّل في صمود المقاومة وأهلها، والذي بدّد كلّ رهانات الاحتلال، وأثمر فشله في الوصول إلى غاياته، سواء لناحية تفكيك البنية العسكرية لـ«حماس»، أو القضاء على الأنفاق، أو حتى إخضاع الحركة (باعتبار أن هذه العناوين إنما هي الترجمة الفعلية لمفهوم «القضاء على حماس»)، وهو ما انسحب أيضاً على قضية الأسرى الإسرائيليين، الذين انطفأت آمال استعادتهم بالعملية البرية، لا بل إن هذه الأخيرة رفعت من مستوى الخطر على حياتهم، الأمر الذي مثّل أداة ضغط إضافية بيد عوائلهم التي اندفعت إلى توسيع تحرّكها الاحتجاجي، مثيرةً خشية رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من أن يؤدّي تفاقم هذه الضغوط إلى تصدّع الإجماع الإسرائيلي حول الحرب.وإلى جانب ما تَقدّم، أتى الضغط الأميركي ليشكّل قوة دافعة إضافية في اتّجاه الهدنة، مدفوعاً باعتبارات داخلية خاصة، ولا سيما أن بين الأسرى من يحملون الجنسية الأميركية.
ساهم تقاطع كل تلكّ العوامل في إنضاج ظروف الهدنة المقرونة بتبادل جزئي، بعدما حاول نتنياهو الالتفاف على مطالب عوائل الأسرى، واضعاً استعادتهم كهدف إضافي للعملية البرية، وليس منفصلاً عنها. إلا أنه بعد مضيّ شهر ونصف شهر من الحرب، لم يستطع خلالها جيش الاحتلال تحقيق هذا الهدف، وجدت قيادة العدو نفسها أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا مواصلة العملية البرية وتعريض حياة الأسرى للخطر، أو التراجع عمّا سبق رفضه والقبول بتبادل جزئي مقرون بهدنة تستمرّ لعدّة أيام. وبعدما مال إلى الخيار الثاني، لم يستطع التغطية على كونه خضع لمطلب المقاومة التي عرضت منذ اليوم الأول تبادلاً بموجب صفقة واحدة أو على مراحل، وضلّل الجمهور بشعارات وأمنيات سرعان ما تحطّمت في الميدان.
برزت مجموعة من التقديرات التي حذّرت من مخاطر الهدنة من الناحيتَين الاستخباراتية والعسكرية على إسرائيل


من جهة أخرى، برزت مجموعة من التقديرات التي حذّرت من مخاطر الهدنة من الناحيتَين الاستخباراتية والعسكرية على إسرائيل. ومن بين هذه المخاطر أن جيش العدو قد يفقد معلومات استخبارية، وأن المعلومات التي جُمعت على مدار أيام في غزة، «سوف تبدأ بالانهيار»، على اعتبار أن حركة «حماس» ستقوم، خلال فترة التوقّف، بإعادة التمركز، وستبذل كلّ ما في وسعها لتعزيز أمنها. وفي حال تمّ تمديد الهدنة، ستصبح المهمة العسكرية للجيش صعبة للغاية، كما سيتعيّن عليه أن ينتقل إلى وضع دفاعي، ما يعني تحوّل جنوده إلى أهداف فيما مقاتلو المقاومة يتموضعون في الأنفاق. مع ذلك، وعلى الرغم من أن قبول العدو بالهدنة والتبادل يُعدّ دليل عجز، إلّا أن شروط الوقف النهائي للحرب لا تزال غير مكتملة حتى الآن، فضلاً عن أن خارطة انتشار قوات الاحتلال في شمال غزة في مقابل المقاومين تجعل الوضع الميداني على صفيح ساخن. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن ثمة أكثر من 200 أسير ستكون إسرائيل مُلزَمة بالعمل على استعادتهم في مقابل تبييض سجونها وفق ما تطالب به المقاومة. كما أن ثمّة مطالب تتّصل بمجمل الوضع في القطاع، فيما أيّ محاولة لإبقاء جنود الاحتلال على جزء من أرض غزة، ستجعل إخراجهم أولوية ملحّة لدى المقاومة.