غزة | لا أزعم، في سباق التباهي بالقرب من الشهداء، وهو تنافس محمود بالمناسبة، أنني أكثر من يعرف ويحب أيمن الرفاتي، لكنني واثق من أنني أكثر من سيبكيه، ليس لأن «أبو عمر» هو زميلي في «الأخبار» منذ سنوات فحسب، إنما لأنه أجاد، على نحوٍ فريد، حجزَ مساحة خاصة به في كل أيامي. في كل المواقف المضحكة، المسلّية، وفي جلسات السمر العائلية الخاصة، يحضر أيمن. يكفي أن أقول إن زوجته، أم عمر، كانت تمقتني كما كانت زوجتي تمقت أيمن. والحق أنه ليس كرهاً، بل شيءٌ غير مفهوم من طِباع النساء الغريبة؛ إذ إنهما تَغيران حتى من طول الوقت الذي نقضيه معاً على نحوٍ دوري. «شو بدك تحل قضية الشرق الأوسط مع يوسف الليلة، يلا يا أيمن»، يصلني صوت أم عمر من الهاتف، بينما يكرر أبو عمر لازمته للمرة العاشرة بعد المئة: «نص ساعة بس... نص ساعة». هكذا تنقضي ساعتان أو ثلاث ساعات من الجلوس على طاولةٍ في إحدى «كافيتريات» شاطئ غزة.

الغريب هنا، أن الشاب الطموح، الغارق حتى آخر شعرة من رأسه في كتابة التقارير البحثية والمقالات والمواضيع الصحافية والاستضافات التلفزيونية الغزيرة، لديه الوقت الكافي ليكون اجتماعياً بالمستوى نفسه الذي كان عليه معي. ابن الأعوام الـ36، يشعر كلّ صديقٍ له بأنه صديقه الأقرب: يبادر أولاً بالمواساة في الحزن، وكذلك ينسحب آخِراً من كل فرح. يمتلك مستشعراً غريباً في استجلاء حالتك المزاجية، ويجد الحلول الأنسب لمعالجتها: «يوسف يلا جاييك نطلع نتعشى»؛ سيداهمك برسالة صوتية كهذه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فقط لأنه شعر من إجابةٍ واحدة على أحد استفساراته بأنك لست على ما يرام.
سلاماً إلى الضحكات الوادعة، إلى مشاريع الحياة المؤجّلة


على أنه، ورغم كل انفتاحه الاجتماعي هذا، أخلص زوج، وأحنُّ أبٍ. دائماً لديه الوقت الكافي للخروج رفقة عائلته الجميلة. ذات مساء، اجتمعت معه مصادفةً في أحد مطاعم المدينة، ولأن الخدمة ذاتية، اضطر أيمن للذهاب والعودة عشرات المرات وهو يجلب لبناته الثلاث وأخته وزوجته طلباتهن المتكررة. وبينما أنا على بعد طاولتين منه، ويدّعي كلٌّ منا أنه لم يلحظ وجود الآخر، تجنّباً لكومة الخجل والإحراج التي سنضطر لتجشم عنائها ونحن نتبادل التحايا رفقة زوجتينا، ولأنني كسول إلى الحد الذي اشترطت معه على زوجتي أنه في حال ذهبنا إلى مطعمٍ من مطاعم الخدمة الذاتية، فإنني لن أبرح مقعدي، وأنكِ «أنت رح تتولي المهمة. جيبي شو ما بدك»، وفي غمرة انشغال الأخيرة، ستصلني رسالة من «أبو عمر» عبر الهاتف: «يوسف قوم جيب الطلبات وخلي زوجتك ترتاح، اتركك من كسلك وإلا...».


لست أفهم حتى اللحظة لماذا اغتالت إسرائيل أيمن، ولا أدري هل كان يشغل منصباً مهماً في حركة «حماس» التي ينتمي إليها، أم ضاقت بصوته الهادر ذرعاً؟ لكن ما أعرفه أن الشهادة تليق به. «يحبك أيمن كثيراً يا يوسف»، قالت لي زوجته عندما زرتها أمس معزّياً. غرقت في دموعي عندما احتضنت بناته الثلاث: سلمى وفاطمة ودانا، وتأملت كثيراً كيف كان يحتمل مني كل انتقاداتي اللاذعة لسلوك «حماس» الحكومي. لقد استطاع أخي الشهيد أن يكون إنساناً مجرّداً من كل حزبية، يحب بقلبه، ولا يحاسب الخلق على آرائهم وتوجهاتهم.
وداعاً يا أخي... سلاماً إلى الضحكات الوادعة، إلى مشاريع الحياة المؤجّلة. لن أسافر إلى بيروت وحيداً، لن أقطع شارع الرشيد في مساءات الليالي. لكنني سأحفظ لك كل شيء تحبّه. في عينَيَّ أنت يا رفيق العمر، وفي قلبي أبداً سلمى وفاطمة ودانا.