أحياناً، لا يكفي الوازع الأخلاقي لاتّخاذ قرارات حاسمة في شأن التعامل مع الأعداء؛ وما فعله عثمان نوري طوب باش، زعيم جماعة «إيرينكوي» الدينية، ربّما يلقي «الحجّة الشرعية» على الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حيال استمرار الشركات التركية، ومعظمها تابعة لـ«حزب العدالة والتنمية»، في التعامل مع إسرائيل وإمدادها بكلّ أنواع المساعدات، في وقت ترتكب فيه الأخيرة جرائم إبادة موصوفة هبّ ضدّها الشارع الأوروبي والغربي قبل الشارع المسلم.وإذ لم يُجب إردوغان، إلى الآن، علناً عن السبب الذي يمنعه من وقف هذه التجارة، فإن الداعية طوب باش التجأ إلى أحد فقهاء ومجتهدي المذهب الشافعي، العز بن عبد السلام، علّ «الرسالة» تصل بطريقة أخرى، ولو متأخّرة، إلى المقامات الحاكمة في تركيا. وللتذكير، فإن شيخ الإسلام، ابن عبد السلام، يُعدّ أحد أبرز فقهاء الشافعية، وهو عاش في نهاية العصر الأيوبي وبداية العهد المملوكي (1181 - 1262)، وكان خطيباً في الجامع الأموي، واشتهر بجرأته في مواجهة الملوك وبموقفه الصلب إزاء ضرورة محاربة الصليبيين ثم التتار. ويُنقل أن خلافاً حصل بين الأميرَين الأيوبيَّين الصالح إسماعيل، والصالح أيوب، على المُلك؛ فاستنجد الصالح إسماعيل - وكان في دمشق - بالصليبيين، وسلّمهم عدداً من مناطق المسلمين، مثل صيدا والشقيف وصفد، وأَذن لهم أيضاً بدخول دمشق لشراء السلاح من المسلمين لمحاربة الصالح أيوب. فغضب ابن عبد السلام وأصدر فتواه الشهيرة (1240): «يحرم عليكم مبايعتهم لأنكم تتحقّقون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين». ثم خطب من على منبر الجامع الأموي، مقبّحاً الخيانة، بل دعا إلى خلع الصالح إسماعيل الذي كان خارج دمشق. وعندما عاد الصالح، عَزل العز الذي غادر إلى القاهرة. وهناك، في مصر، شارك ابن عبد السلام في الجهاد ومقاتلة الصليبيين. وذهبت عبارته مثلاً، عندما قال في إشارة إلى الجيش الصليبي الذي وصل إلى دمياط: «يا ريح خذيهم»؛ وبالفعل، تبدّل مسار الرياح، وأخذتهم وانهزموا وغرقت مراكبهم. وعندما تقدَّم التتار بعد بغداد ودمشق إلى مصر، أفتى العز بوجوب قتالهم، علماً أنه عاصر أحد أبرز انتصارات المسلمين في التاريخ، عندما تغلّبوا على التتار عام 1260 في معركة عين جالوت على يد سلطان المماليك، سيف الدين قطز.
لا تزال السلطة تتعامل مع المحتجّين على تواصل التجارة مع إسرائيل بالعنف والاعتقال


وبالعودة إلى الداعية طوب باش، فهو انتقد في موقف له على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أيام، الحكومة التركية بسبب عدم قطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل. وقال: «أريد أن أنقل إليكم قصّة في موضوع مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والداعمين لها. ابن عبد السلام، أحد فقهاء الشافعية، نشر فتوى بحرمة بيع السلاح ومواد السلاح والمواد التي يصنع منها السلاح إلى الصليبيين الذين شنّوا حرباً على العالم الإسلامي. أحد الخيّاطين الذي سمع بهذه الفتوى، جاء إلى عبد السلام، وسأله: جاء إليّ الصليبيون لكي أخيّط لهم ثياباً. إذا خطتُ ثياباً لهم، فهل أكون شريكاً في الظلم؟، وقد أجابه ابن عبد السلام بما يلقي الضوء على ما يجري في أيّامنا: كلّا. أنت لست شريكاً في الظلم. إن الذي باعك الإبرة والخيط هو شريك في الظلم، أمّا أنت فستكون الظالم نفسه».
ورغم الرسالة القوية التي وجّهتها نتائج الانتخابات البلدية، فإن السلطة لا تزال تتعامل مع المحتجّين على تواصل التجارة مع إسرائيل بالعنف والاعتقال. فبعد ظهر السبت الماضي، خرجت مجموعات من حركة «ألف شاب من أجل فلسطين» إلى ساحة تقسيم عند مدخل شارع الاستقلال، حيث قامت بقطع الطريق احتجاجاً على استمرار تلك التجارة، لكن قوى الأمن تدخّلت واعتدت على المتظاهرين واعتقلت 43 منهم، وما لبثت بعد التحقيقات أن أطلقت سراح 38 منهم، واحتفظت بالخمسة الباقين. لكن الجديد أن وزير الداخلية أقال اثنين من مسؤولي الشرطة من منصبيهما وأحالهما على التفتيش.
ولقي التعامل القاسي للشرطة مع المحتجّين ردود فعل واسعة لدى قادة المعارضة؛ إذ اعتبر زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، أن «ما حدث هو انتهاك لحرّية التعبير وحرية الاجتماع وللدستور، ويجب إطلاق سراح المعتقلين فوراً»، مكلّفاً نائبين من إسطنبول متابعة قضيّة المعتقلين. ومن جهتها، رأت تولاي خاتم أوغوللاري، الرئيسة الموازية لـ«حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الكردي، أن مشاهد ضرب المحتجّين دليل آخر على دموع التماسيح التي يذرفها تحالف «العدالة والتنمية - الحركة القومية» على الشعب الفلسطيني المظلوم. وقالت إنه «في وقت تستمرّ فيه التجارة بملايين الدولارات مع إسرائيل، يعاقَب المحتجون على ذلك بالتعذيب والاعتقال». ومن على منصّة «إكس»، خاطب رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، أركان السلطة، قائلاً : «قوّتكم لم تكفِ لوقف التجارة مع إسرائيل. لكنها كانت كافية لتفريق المتظاهرين واعتقالهم. لا تحوّلوا الشرطة إلى جزء من الظلم وهم الذين تنفطر قلوبهم على غزة». أمّا زعيم «حزب السعادة»، تيميل قره موللا أوغلو، فقال إن «التجارة مع إسرائيل ظلم لسكان غزة والتعامل بعنف مع المحتجّين ظلم أكبر. في الأمس قمعوا احتجاج قونية واليوم إسطنبول»، مضيفاً أن «معاملة الشبان المحتجّين بهذه الطريقة، تعطي المشروعية لإسرائيل في ظلمها للفلسطينيين وتشجّع دولة القَتَلة. التجارة مع إسرائيل خيانة. نقطة». وفي وقت لاحق، أُطلق سراح المعتقلين الخمسة.