قبل أيام، نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريراً مطولاً عن صناعة الهوية الوطنية في كلّ من السعودية والإمارات، كمصدر أول للشرعية والوحدة في كلا البلدين، بتوجيه من القيادة الجديدة في كلّ منهما، والمتمثّلة في ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي، محمد بن زايد. وبحسب المجلة، فإن كلّ السياسات المحلّية في كلتا الدولتَين يمكن إعادتها إلى استراتيجية الهوية تلك، والموجَّهة بشكل أساسي إلى فئات شابة، سواءً تعلّق الأمر برفع أسعار النفط (سعودياً)، أو زيادة الإنتاج (إماراتياً)، أو تنفيذ مشاريع ضخمة، أو تملّك أندية رياضية كبرى واجتذاب لاعبين عالميين كباراًَ، أو تعميق التقارب مع كلّ من روسيا والصين وإيران وتركيا. فالسعودية والإمارات تحاولان، كلّ على طريقتها، الاستفادة من عالم متعدّد الأقطاب، ومن انخراطهما تقريباً في كلّ النزاعات في الشرق الأوسط الأوسع، بشكل تحوّل إلى تصادمي بينهما، بعد أن كان تكاملياً في مرحلة من المراحل، علماً أنه بين أسباب تقدّم الهويات الوطنية ليس فيهما وحدهما فحسب، وإنما في كلّ دول الخليج أيضاً، تراجع المظلّة الأمنية الأميركية التي كانت تشكّل ضمانة جماعية للدول الستّ في «مجلس التعاون الخليجي».وفي أوضح ترجمة لذلك التنافس، يُلاحَظ أنه عندما يشتدّ الخلاف بين الدولتَين، يتولّى «الوطنجية» على الجانبَين تظهيره، من خلال التراشق بالاتهامات، وحتى التنابز بالألقاب على وسائل التواصل الاجتماعي. و«الوطنجية» هم الجيش الحقيقي للنظام في كلا البلدين اللذين يستندان في هذه الأيام إلى تغذية شعور بالوطنية، يُراد له أن يكون عصب النظام الذي يلتفّ حوله المواطنون. ويترافق هذا مع التركيز على نظام الرفاه الاجتماعي القائم في البلدَين، والذي يستهدف ضمان ولاء المواطنين، ولا سيما في الوقت الحالي الذي راكم فيه النظامان ثروات كبيرة، بفضل ارتفاع أسعار النفط. ويتطلّب ما تَقدّم، أيضاً، تركيز السلطة في يد الحاكم إلى حدّ أن كلّ الموارد تصبّ عنده، وعبره يتم التوزيع، وهو ما تجلّى مع تهميش ابن زايد حكّام الولايات الأخرى، واستبعاد ابن سلمان جميع مراكز القوى الأخرى في الأسرة، عن السلطة.
على أن الهويات الوطنية هذه ليست جديدة، وإن كانت تقدّمت مع الجيل الجديد من القادة، إلى رأس سلّم الأولويات، بعدما كانت المساحة المشتركة على المستوى الخليجي، على الأقلّ، ومن ثمّ العربي والإسلامي، أوسع بكثير. هكذا، بدأت أوصاف من مثل «السعودية العظمى» تتردّد بكثرة وبشكل موجّه، فيما برز الاهتمام الشخصي المباشر الذي يوليه ابن زايد لتقدّم «الإماراتيين»، وصولاً إلى الفضاء الذي أعلنت الإمارات، أمس، أنها ستطلق إليه أكبر قمر اصطناعي في العالم. ومن الطبيعي أنه عندما تتقدّم الهويات الوطنية، تزداد مخاطر الصدام في ما بينها، ولا سيما في حالة السعودية والإمارات اللتين تطمح قيادتاهما إلى لعب أدوار كبيرة تعزّزان من خلالها قوّتهما وشرعيتهما، مستندتَين إلى تلك الثروة الهائلة التي تتمتّع بها كلّ منهما، والتي يُستخدم جانب منها في الخارج كما في الداخل.
عندما يشتدّ الخلاف بين السعودية والإمارات، يتولّى «الوطنجية» على الجانبين تظهيره


في السابق، عندما كان التعاون بين دول الخليج يؤمّن مصلحة الأنظمة الخليجية كلّها، كان ثمّة تقاسم أدوار في ما بينها، وهذا ما سمح للإمارات بأن تؤدي دور المسْكَن والمنتجع لكبار التنفيذيين الأجانب الذين يعملون في المملكة، ثمّ دور المقرّ الإقليمي للشركات الكبرى التي تعمل في الشرق الأوسط، وتتعامل مع السعودية كأكبر سوق لها. وإظهار الهوية الإماراتية ليس جديداً، بل كان على الدوام من لوازم لُحمة الإمارات السبع التي لا يمكن أن تجمعها إلّا الثروة التي تسيطر عليها أبو ظبي، إلّا أن الأخيرة تحتاج إلى تشديد دائم على الهوية «الإماراتية»، لأن الدولة فتيّة نسبياً، والمشيخات الأخرى ما زالت تحتفظ بهويتها الأصلية، وهي كانت قبل إقامة الدولة عام 1971 منخرطة في صراعات بَينية على الثروة. ومع ذلك، تشهد الهوية «الإماراتية» عملية ترويج كبرى في الوقت الذي يصطدم فيه ابن زايد بطموحات ابن سلمان البعيدة المدى. أمّا في الحالة السعودية، فالتشديد على الهوية الوطنية جديد نسبياً، وجاء ضمن تغيير شامل لركائز شرعية النظام، اقتضى تحجيم الجناح الوهابي في السلطة، والقضاء على مراكز القوى داخل الأسرة، واختصارها بشخص ابن سلمان. ويكاد مشروع إظهار الهوية، في هذه الحالة، يتلخّص في المهمّة الكبرى المُلقاة على عاتق المستشار تركي آل الشيخ، الذي يحرص على تقديمها في كلّ البرامج التي يديرها، سواءً كانت حفلات فنية أو مناسبات شعرية أو حتى مسابقات، فيما يتولّى المستشار سعود القحطاني قيادة الجيش الإلكتروني الذي يضمّ «الوطنجية».
وعلى الرغم أن التسريبات كثيرة حول الخلافات السعودية - الإماراتية، إلّا أن البلدين لا يزالان، على المستوى الرسمي، يتجاهلانها. ولذلك أسباب من بينها أن ما يريده ابن سلمان هو إعادة ابن زايد إلى بيت الطاعة إن أمكن وليس الإطاحة به، وبوسائل مختلفة عن تلك التي اتُّبعت مع قطر وفشلت، لأن مصيرها سيكون الفشل في الحالة الإماراتية أيضاً، وهي مثلما كانت مرفوضة أميركياً في الحالة القطرية، ستكون مرفوضة من قِبل واشنطن في الحالة الإماراتية. وعليه، لا أفق قريباً لنهاية الصراع الإماراتي - السعودي، مهما ظلّ مكتوماً، لأنه بمعنى ما ينطوي على رغبة في إلغاء بعض المبرّرات الأساسية لوجود الإمارات بشكلها الراهن، في ضوء تطلّع ابن سلمان إلى الاستحواذ على دورها كمركز تجاري عالمي ومقرّ إقليمي للشركات العالمية الكبرى، في حين يعتقد ابن زايد بأنه يمكنه منع الأول من تحقيق هدفه هذا، من خلال تقديم نفسه كبديل للسعودية في تنفيذ الرغبات الأميركية، بعدما امتنعت الرياض عن تنفيذ بعضها إلى الآن، ومن بينها التطبيع مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه منافستها في التقارب مع روسيا والصين وإيران وتركيا.