يَظهر أنّ الكويت تواجه مشكلات داخلية جمّة، من العلاقة المتوتّرة بين المؤسسة التنفيذية ومجلس الأمة - ولا أقول بين بيت الحكم والمؤسسة التشريعية؛ ذلك أنّ حكم أسرة الصباح محل إجماع وطني، والاختلاف مشروع حول حدود صلاحيات الأمير أو نمط تطبيقه لاختصاصاته -، إلى فوضى الانتخابات التي تُنظّم ثم تُلغى ثم تُعاد ثم تُشطب مرة ثالثة، إلى عدم تقنين حقّ القوى السياسية في التنظيم الحزبي، مروراً بعدم استقرار الحكومات ومعدّل عمرها نحو 18 شهراً في العقود الستة الأخيرة، وليس انتهاء بالخلافات الحادة والعلنية أحياناً داخل فروع الأسرة الحاكمة حول الذرّية التي يجدر بها توارث الحكم. تُضاف إلى تلك المشكلات عقدة الجيوبوليتيك الناتجة من المثلث الناري السعودي - الإيراني - العراقي، والأسئلة بشأن الاستثمار الأمثل للإنتاج النفطي، البالغ أكثر من ثلاثة ملايين برميل يومياً.

أولاً: مشكلتان رئيسيّتان تفرخان أخرى
هناك تحديات فرعية، وأخرى رئيسية تنسل منها المصائب. ويجدر التمييز بين النوعين، ووضع اليد على الجوهري والأساسي من القضايا، إذا ما أردنا الوصول إلى حلول واقعية للمشهد المعقّد. في الجانب السياسي، أعتقد أنّ الكويت تواجه مشكلتين رئيسيّتين، الأولى: مشكلة توارث الحكم، والثانية: أن الغالبية البرلمانية لا تحكم، أو لا تستطيع تنفيذ برنامجها الانتخابي الذي على أساسه تم التصويت لها. فهي محاصرة في التشريع والرقابة البرلمانية. تسوية تينك المعضلتين تمهّد الطريق نحو الاستقرار، ولا يحتاج ذلك إلى تدخلات جراحية في دستور تضمن مكاسب مهمة للكويت وشعبها.

ثانياً: أسئلة قديمة
الأسئلة تتجدّد حول مآلات تلك القضايا وغيرها، إثر تسنّم الأمير مشعل الأحمد (ولد 1940) مقاليد الإمارة، بعد وفاة نواف الأحمد (1937- 2023) إثر مدّة حكم قصيرة، أنجز فيها عفواً مهماً عن مساجين من توجهات شتى، حوكموا في قضايا ذات طابع سياسي، فيما استمرت المناوشات التقليدية بين مجلس الأمة شبه المنتخب، والحكومة المعينة، التي يرأسها أحمد النواف، نجل الأمير الراحل. لا مؤشرات إلى أن الكويت بصدد الدخول في مرحلة جديدة، ما دامت القضايا القديمة عالقة، في حين تمكنّت الأسرة الحاكمة من إنجاز سياسة خارجية متوازنة، بعد تجربة 1990 المريرة، ولم يحتج ذلك إلى تغيير دستوري. كما لا تحتاج مقاربة الميزانية ومصاريفها إلى العبث بالوثيقة التوافقية الصادرة في 1962، من دون ضمانات صلبة بأن يأتي تحديث الدستور، أو إصدار آخر جديد بما هو أفضل للشعب والدولة، وألّا يفتح هذا الباب على مصراعيه لتعديلات قد لا تقف عند حد.

ثالثاً: تمكين الغالبية البرلمانية
بمجرد أن يؤدي أعضاء مجلس الأمة المنتخبون اليمين الدستورية، يكتشفون أنهم خارج المنظومة التنفيذية، التي يشكّلها رئيس وزراء يعينّه أمير البلاد بمرسوم أميري، من دون الأخذ في الحسبان، بالضرورة، توجّهات الأعضاء، الذين يصبح ردّ فعلهم التلقائي تفعيل الرقابة البرلمانية، ومساءلة الوزراء واستجوابهم، في كل صغيرة وكبيرة، ربما، في ظل عجزهم عن تحقيق شعاراتهم الانتخابية. ويدفع ذلك الحالة السياسية من التأزم إلى مزيد من التأزم. حل هذه المعضلة لا يحتاج إلى تغيير دستوري، إذ تدعو المادة 56 من الدستور إلى إجراء «المشاورات التقليدية» عند تعيين الأمير، رئيس مجلس الوزراء. ولعل الحلّ يكون عبر تطوير مصطلح المشاورات بما يمنح الغالبية البرلمانية صوتاً في اختيار رئيس الوزراء، أو كتابة البرنامج الحكومي، أو من يتقلّد الوزارات غير السيادية في المرحلة الأولى، أو كل ما تقدّم معاً، وغيرها من الخطوات التي تدفع بالبرلمانيين المنتخبين إلى وضع بصماتهم على مسار العمل التنفيذي. إذا ظلّ المنتخبون من دون تأثير حقيقي في الفعل الحكومي، يرفعون شعارات برّاقة في الخيم الانتخابية، فيما يتحوّل البرلمان إلى «هايد بارك»، فإن التوتّر سيظلّ يطبع العمل السياسي، ويجرّ إلى تشكيل حكومات غير معمّرة، وحلّ لمجالس الأمة بمجرّد انتخابها.

رابعاً: فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء
سبق للكويت أن فصَلت بين منصبي مجلس الوزراء وولاية العهد، في 2003، من دون تغيير دستوري. وكانت خطوةً ضرورية من أجل تفعيل العمل الحكومي والبرلماني، وزيادة مساحة الفصل بين السلطات، وليس فقط بسبب صراع أجنحة حينها، حيث كان ولي العهد والأمير (لمدة أيام فقط) الراحل، سعد العبد الله، يعاني المرض، وطالت مدة شغله المنصبين من 1978 إلى 2003. سياسياً، إذا كان ولي العهد، وهو الأمير المقبل، يشغل منصب رئاسة الوزراء، فمن المحتمل أن يدخل في صدام مباشر مع مجلس الأمة، وقد يطعن ذلك فيه أميراً مقبلاً يفترض أن يمارس صلاحياته عبر وزرائه وليس مباشرة (المادة 55 من الدستور).

خامساً: توارث الإمارة
من الإيجابي أنّ المعضلة لا تتمثّل في البحث عن أمير يشغل منصباً شاغراً، وإنما في البحث عن الأمير التالي، أي ولي للعهد، بعد خلو منصب الأمير، وتقلُّد ولي العهد الحالي سدّة الإمارة، ويمكن تصوُّر تعقيد المشكلة، لو كان على الكويت اختيار أمير لها مع شغور منصب رأس الدولة. تعود جذور المشكلة إلى عرف سياسي، وليس قانوناً أو نصاً دستورياً، يقترح بأن يتبادل كرسي الإمارة فرعا السالم والجابر، من أبناء مبارك الصباح (حكم بين 1886- 1915). منذ 1977، تحوّل الحكم أفقياً، في ذرّية مبارك الصباح، في الإخوة من جابر الأحمد (حكم: 1977 – 2006)، إلى صباح الأحمد (حكم: 2006- 2020)، إلى نواف الأحمد (حكم: 2020- 2023)، إلى الأمير الجديد مشعل الأحمد، الذي أمامه عام ليختار ولي عهده، ثم على مجلس الأمة إقرار هذا التعيين بغالبية الأعضاء. ويُعد ذلك بمنزلة مبايعة للأمير التالي.
دستور الكويت كُتِب بأيدي ممثّلين للناس، بالشراكة مع الأسرة، والحفاظ عليه واجب الجيل الحالي نحو أبناء المستقبل

وإنه لأمر مبهر وذو مغزى أن يكون للبرلمان دور في اختيار الأمير المستقبلي. كحلّ لمشكلة التوارث، لا أريد القفز بسرعة واقتراح النمط العمودي، ولا اقتراح انتخاب ولي العهد (الأمير المقبل) من قبل مجلس الأمة في ضوء برنامجه من عدة مترشّحين يتقدّم بهم الأمير، وكِلا الخيارين لا يتطلبان تغييراً دستورياً. يمكن اقتراح خيارات إضافية، لكن بالتأكيد، إنّ إدخال ملف الدستور يُظهر افتعالاً مريباً، لمقاربة معضلة كلاسيكية لدى الأسر الخليجية الحاكمة، التي لم يستقر فيها بعد نمط للتوارث، باستثناء البحرين التي يسودها منذ 154 عاماً النمط العمودي في التوارث من الأب إلى الابن.

سادساً: الحذر من العبث بالدستور
في منطقة بائسة، لا تنطلق فيها التغييرات الدستورية نحو مساحة أوسع من التراضي الوطني والشراكة السياسية، ينتابني القلق حين أسمع مثقّفين وساسة كويتيّين بارزين، أكنّ لهم الاحترام، ينادون علناً بتغيير الدستور للتعاطي مع التأزم الكويتي. المشكلات المذكورة وغيرها يمكن علاجها عبر خلق أعراف سياسية، عِوض الدخول في مغامرة غير مضمونة النتائج بإدخال تعديلات على دستور تاريخي كتبه مجلس تأسيسي، مكوّن من 20 عضواً منتخباً، و11 آخرين عيّنهم أمير البلاد الراحل، عبدالله السالم، والذي مُنح لقب «أبو الدستور». «دستور دولة الكويت» كُتِب بأيدي ممثّلين للناس، بالشراكة مع العائلة الحاكمة، والحفاظ عليه واجب الجيل الحالي نحو أبناء المستقبل.