هم فئة مهمشة نزحت من الصعيد الفقير إلى «أُم الدنيا». كانت الحكومة المصرية تطاردهم وتطردهم باستمرار من الأراضي التي سكنوها لشكاوى جيرانهم من الروائح الكريهة. برغم ذلك ظلوا «ينظفون وسخ غيرهم»، لأنها ببساطة مهنتهم بعدما هجروا الزراعة وصعيدهم
قاسم س. قاسم
الاسم عزت جندي. مكان السكن حيّ الزبالين في سفح جبل المقطم غرب القاهرة. المهنة زبّال ابن زبّال. هكذا يعرّف عن نفسه: أحد أبناء الزبّالين الصعايدة. يتحدث بلهجة صعيدية فخورة وبسيطة عن تاريخ عائلته في المهنة، وكيف هاجر عمّ جده، فوزي الشرقاوي من الصعيد إلى القاهرة للبحث عن عمل بعدما ترك مهنة الزراعة. في القاهرة تعرف الشرقاوي إلى الواحيين الذين كانوا «يأخذون زبالة المدينة ويطلعوا بيها الصحرا»، حيث كان يجري تنشيفها وإعادة بيعها للأفران والحمامات الشعبية مثل حمام الملاطيلي (الذي يحمل فيلم قديم اسمه) وحمام الثلاثاء. تعرّض عمل الواحيين لنكسة بعدما أصدرت الدولة عام 1942 قراراً يمنع استعمال الزبالة وقوداً، فبدأت تطاردهم. سمع الشرقاوي بالمشكلة، فعرض على الواحيين «أخذ الزبالة». هكذا، أخبر أقاربه بمشروعه، عارضاً عليهم العمل معه، فأتوا وسكنوا في منطقة شبرا الخيمة الشعبية حيث «دقوا بيوت من صفيح وتنك وجابوا معاهم الخنازير والماعز». أما استفادة الزبّالين فكانت «ببيع الخنازير اللي بتخّلف كتير»، وخصوصاً أنه لا مشكلة للأقباط، الذي هو وقومه منهم، في تربية هذا الحيوان.
توسعت القاهرة، وازدادت حاجة الناس إلى الزبّالين، فبدأ أقارب جندي بالتوافد إلى القاهرة بأعداد كبيرة، وفي غضون 20 عاماً وصل عددهم الى 20 ألفاً، وأصبح التجار يقصدونهم لشراء الحديد والبلاستيك. عادت الدولة لتطارد الزبّالين، وهذه المرة بسبب الروائح الكريهة المنبعثة من أماكنهم، فطردتهم من شبرا الخيمة إلى عزبة ورد، «معرفش ليش سموها عزبة ورد مكنش فيها ورد ولا حاجة» يعلق ساخراً.
«في عام 64 حصل حدث هزّ الكون... أنا إتولدت»، يقول جندي وهو يضحك. يتذكر طفولته، قائلاً: «كنت أنزل مع والدي في الصباح لجمع النفايات في منطقة حدائق القبة»، وكانت مهمته حراسة «العربة والبغل من الحرامية». رحلوا مجدداً عام 71، فتوجهوا إلى جبل المقطم و«اختبأنا في سفحه». لم يتخيل جندي يوماً أنه سيكون تلميذاً، وخصوصاً أن «الدراسة شيء نادر في مجتمعنا». لكن أُم عزت تحدّت هذا الواقع، فتوجهت حاملة شهادة ميلاده و«سجلتني في مدرسة في العباسية». في أول يوم دراسة «ايقظني والدي لأذهب معه للعمل، لكن والدتي أخبرته أنني ذاهب إلى المدرسة، فردّ عليها قائلاً: «مدرسة إيه، وهباب إيه يلعن أبو المدارس». مع توسلات الأم وبكائها، رضخ الرجل وجرى «استبدالي بقفل وسلاسل ليربط قدمي الحمار». بعد عامين تغيرت المهنة وبدل جمع النفايات أصبحت العائلة تشتري الزبالة ويجري «فصل الورق وبيعه لتاجر في مصر».
مع دخوله المدرسة «استُبدل» بقفل وسلاسل لربط قدَمَي الحمار

هو مدير جمعية روح الشباب التي تُعنى بتعليم أبناء الزبالين
خلال الدراسة، لم يعرف أصدقاؤه أنه من الزبالين، وكان يقول لهم إنه يقطن في منشية ناصر، مضيفاً: «أصلاً مكنش باين عليّ، كنت أستحم وألبس زيّي زّيهم». أما كيف عرف التلامذة حقيقته، فيقول: «طلب أستاذ اللغة العربية موضوعاً عن المهن التي تؤثر بحياة العامة، فاخترت حياة الزبالين». كتب عن حياتهم و«كيف نأخذ الزبالة نجففها ونعيد بيعها في الأسواق». يوم توزيع الكراريس «طلب الأستاذ مني الوقوف وسألني عن مصدر معلوماتي، فقلت له إنني من الزبالين». صدم الجواب الأستاذ، لكنه لم يهتم «لأنني كنت من الشاطرين». انتهت مرحلة الابتدائية وتوجه إلى ثانوية الحسينية. هناك عرف أصدقاؤه أنه من الزبالين، «لأنني كنت أسلم على زبّال كان يجمع زبالة من البنايات القريبة من المدرسة». سألوه «منين تعرف الزبال ده»، فقال لهم: «هو ابن عمتي وأنا من الزبالين». بعد هذا «التصريح» فرز الأصدقاء أنفسهم: منهم من ابتعد متعالياً، ومنهم من اقترب محكوماً بالفضول.
بعد حصوله على منحة لدخول كلية التجارة وإدارة الأعمال في الزمالك نتيجة علاماته العالية، أحبّ صديقته نيفين التي كان والدها من تجار الحديد في مصر، وكانت المرحلة الجامعية «نقلة كبيرة في حياتي، وخصوصاً أن الكلية تقع في منطقة غنية». لكي يخبر عزت صديقته أنه من الزبالين «أخبرتها أنني أُريد أخذها إلى المقطم. هي افتكرت طالعين على الجبل فوق مكان سكن الأغنياء»، لكن عند دخولها إلى مكان سكنه كانت ردة فعلها أنها «أغلقت أنفها بإصبعيها وسألتني لماذا نحن هنا؟ فأخبرتها أنني أسكن هنا». هكذا انتهت العلاقة «تزوجت هي بعد أسبوعين، وأنا تزوجت ابنة عمي».
رغم انهماكه بالدراسة، واظب جندي العمل مع والده في الحسابات، وخصوصاً بعدما راح يبيع الزجاج والبلاستيك «حينها أصبح منزلنا من طوب وفيه مجاري صحية وما عدناش نقضي حاجتنا بزريبة الحيوانات».
خلال فترة الدراسة حضرت بعثة من البنك الدولي للمقطم لتنمية المنطقة «فعملت معهم، وكنت رئيس مجموعة أجرت إحصاءات لحاجات المنطقة».
ورغم عمله مع مؤسسة دولية، أكمل عزت مساعدة والده الذي «اشترى ماكينة تحوّل البلاستيك إلى علاقات ملابس».
في عام 87 أنشئت جمعية حماية البيئة من التلوث التي كانت تعمل على تنظيف زرائب الحيوانات وتحويل مخلفاتها إلى أسمدة. فاستفاد الزبالون من التنظيف تحت حيواناتهم واستفادت الجمعية من أموال السماد الذي من خلاله أعادت تأهيل المنطقة. عيّن جندي مسؤولاً للعلاقات العامة في الجمعية و«أصبحت أسافر وأمثل مصر بندوات عن إعادة التدوير نتيجة خبرتي». اليوم، يقطن عزت حيّ الزبالين، وهو مدير جمعية روح الشباب التي تُعنى بتعليم أبناء الزبالين، وخصوصاً المتسربين ممن «فاتهم» سن التعليم، القراءة والكتابة والحسابات من خلال عملهم. كانت مهمة جمعيته شراء عبوات البلاستيك من هؤلاء الأولاد لخدمة قضيتين: عدم تزوير قناني الشامبو، التي كان التجار المحليون يشترون فراغاتها من أولاد الزبالين، والاستفادة من القناني نفسها وطحنها وبيعها، لإعادة تأهيل منطقة المقطم، بتمويل من... ماركات الشامبو المتضررة من التزوير!
بسبب خبرته، يقول جندي إنه يملك حلاً لمشكلة الزبالة في لبنان والعالم العربي من خلال حملة توعية واسعة عبر الإعلام تعلّم الناس فصل نفاياتهم بين العضوية (الأكل والشرب) وغير العضوية (بلاستيك زجاج وورق). ثم تذهب النفايات العضوية إلى الأراضي وتحوَّل إلى أسمدة، أما غير العضوية فيجري تكسيرها وتنظيفها وتصديرها إلى الخارج، مستشهداً بتجربة والده الذي يبيع طن البلاستيك المكسّر للصين بأربعة آلاف جنيه فتحوله الأخيرة إلى بوليستر وتبيع الطن لمصر بـ16 ألف جنيه.


سأعيش بجلباب أبي

يتحدث عزت عن مجتمعه الذي لا يزال يحتفظ بعادات صعيدية. الفتيات لا يتعلمن خوفاً عليهن من ارتياد المدارس واختلاطهن بمجتمع غريب، فيبقين في المنازل يعملن على فرز الزبالة التي يجمعها الرجال في الصباح. أما من يتعلم من أبناء الزبالين فسيظل في «جلباب أبيه» ليساعده في الحسابات، كما هي حاله وحال أخيه اليوم الذي حصل على دبلوم هندسة.