الجمعة 9/5/2008. العاشرة صباحاً. نزلة عين المريسة. علم حركة أمل ومجموعة من الشباب المتأهّبين على الرصيف، يتوسّطهم رجل أربعينيّ يدعونه أورا
رنا حايك

«ليكي مين! ولك هيدا أورا... سافر عسويسرا ورجع حمل سلاح بمنطقته». تعرّف السائق النازح إلى أورا من نزوحه خلال الثمانينيات إلى عين المريسة. تذكّره أورا فوراً، فهي «عِشرة حرب»، ودلّه على الطريق الأسلم لنزوح جديد يتجاوز عين المريسة هذه المرة. تنطلق السيارة «بحري بحري»، كما هي العادة في الحروب.
بعد ساعات، أعود إلى عين المريسة وأسأل عن أورا. أطمئن الشباب إلى أنّها مجرّد دردشة. يبلغون أورا بالأمر، لكنه يعتذر. فعليه أن يستحم ويصلي وينام قليلاً بعد ليلة طويلة من السهر. أتحادث مع أصدقائه، يخبرني أحدهم أنه زميل، يعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية، ولكن دوامه في الليل، لذلك يقضي النهار مقاتلاً في الشارع حتى لا يتعب منه السرير، كما يقول ممازحاً.
يمرّ شابان من تيار المستقبل، فيعقّب أحد شباب «أمل»: «كلنا ولاد المنطقة. حلّيناها مع جماعة تيار المستقبل حبّياً من دون طلقة رصاص واحدة. لا نتعرّض لهم. نحنا ما عنّا نيّة دم. كلّنا موظفين وبدنا نرجع عوظايفنا».
إذاً، لماذا نزلتم إلى الشارع؟
يتبرّع مقاتل آخر بالإجابة: «معركتنا الحقيقية مع إسرائيل وليست مع أهالينا. لكنّ جزءاً من اللبنانيين ينساقون وراء العمالة الغربية. نزلنا تما يغطسوا أكتر بهالمشروع. بيروت مدينتنا، نحن أولادها أيضاً ولا نريد خرابها. هي تعنينا ولسنا غرباء عنها. في عين المريسة 2500 شيعي نفوسهم من هنا وينتخبون هنا. لسنا دخلاء ولا غرباء ولا هدفنا تخريب بيروت، وإلا ما كنا تعاملنا مع الجيش الذي نحترمه».
أهمّ بالانسحاب فتستوقفني ملاحظة مقاتل آخر: «شفقنا عأهل عكار. جاؤوا بهم بالباصات وأحسسنا أن لا دراية لهم بالمدينة ولا بالقتال، فوددنا لو نؤمن نحن عودتهم إلى مدينتهم».
أهالي عكار كانوا الموضوع الذي استهل به «أبو علي» حديثه معي عند زاوية أحد أحياء المصيطبة، فهي منطقة جميلة يودّ أن يزورها ذات يوم. أبو علي من مواليد عام 1964. كان يافعاً مع بداية الحرب الأهلية. منعه والده من الانتساب إلى حركة أمل. «ما هان عليه أن أنتمي إلى حزب عقائدي محسوب على الطائفة الشيعية». لكن أبو علي لم يطع والده لأكثر من خمس سنوات. ففي عام 1980، كسر السلطة الأبوية، وانتسب إلى الحركة لأنه لم يستطع «تحمّل هجوم الأحزاب الأخرى على منطقته. والدفاع عن حي اللجا كان دفاعاً عن العرض». كلّف هذا الدفاع أبو علي فقدان يديه عام 1987، خلال معارك الحزب التقدّمي الاشتراكي وحركة أمل، حين كان مارّاً بسيارته فرموا عليه قنبلة تلقّفها محاولاً رميها من الشباك فانفجرت في يديه، لكن ذلك لم يمنعه من حمل السلاح مجدداً اليوم.
ـــــ ألا تشعر بأنّك نلت ما يكفي بعدما أفقدتك الحرب يديك؟
ـــ «الوطن لا يُبنى بالتمنيات، بل بالتضحيات».
ـــ وهل إصابتك كانت تضحية في سبيل الوطن؟
ـــــ «أتمنى ذلك...».
تلقّى أبو علي العلاج في فرنسا لمدّة ثلاث سنوات. أتيح له أن يبقى هناك، لكنه آثر العودة «لإنو الشغلة بدمّي». لم يوضح بالضبط ما هي «الشغلة»، لكن الغضب في صوته دلّ على بعض ملامحها: «المعركة اليوم أهم من معارك الـ75. هناك مجموعة بحالها تقدّم أبناءها وأرواحها وأملاكها للحفاظ على هذا البلد ثم تلام وتعاقب رغم ذلك».
ترسل إحدى الجارات من الحي وجبة الغداء للشباب، فأتركهم يتناولونها وأمضي.
في شوارع المصيطبة، تتجوّل مجموعة من المسلّحين، بعضهم ملثّم. نستوقفهم فيستجيبون. يلقون الكثير من النكات. أسألهم عن سبب برودة الأعصاب و«الرواق» الذي يتجلّى في أدائهم على شكل «خفّة لا تحتمل»، فلا يتنازلون عنها في أجوبتهم ويتمسكون بالإجابات الساخرة: «مبسوطين لإنو كلنا أصحاب وهلق عم منقضّي وقت أكتر سوا... مبسوطين لإنو بدل ما يتحكّم فينا المدير بأشغالنا كل يوم الصبح، نحنا متحكمين بالشارع».
يمرّ جيب الدرك: «كيف الشباب؟ كله تمام؟». يردّون بالإيجاب ويبادلونهم التحيّات، بينما يتعجّل أحدهم بإعادة اللثام إلى وجهه، فهؤلاء زملاؤه في الدرك، وقد تخلّف اليوم عن «الخدمة».