جان عزيز
يوم اندلعت حرب التدمير الذاتي بين المسيحيين سنة 1990، اشتهر قولان معبِّران منقولان عن طرفي المعركة. الأول منسوب إلى سمير جعجع، ومفاده أن تلك الحرب ستنتهي حتماً بنتيجة واحد قتيل وواحد جريح، والثاني منسوب إلى ميشال عون، ومفاده أن خصمه إذا خسر المعركة يكون خاسراً، وإذا ربحها فسينتهي به الأمر خاسراً أيضاً، لأن بين الطرفين وريثاً واحداً هو الطائف السوري.
ومع هذين القولين، استمرت الحرب، حتى تأكدا وصحّا وصارا حقيقة، في ظل عجز بكركي وحصارها بين الاعتبارات التي يمليها الموقع والشخص والظرف.
غير أن تطورات تلك الحقبة، وخصوصاً ما أصاب لبنان والمسيحيين بين 13 تشرين الأول عام 1990، تاريخ الاجتياح السوري لقصر بعبدا، و21 نيسان، تاريخ الاجتياح السوري الآخر لمقر غدراس، عادت فأعطت للمسيحيين وبالتالي للبنان كوة ضوء أخرى في جدار المأزق والهزيمة. ذلك أن النظام الذي أقامته دمشق على أنقاض الساحة السياسية المسيحية، ظلَّ موسوماً خلقياً بأقطاب أربعة أساسية. أولها أنه كان نتيجة احتلال عسكري مباشر، وثانيها أنه أقام منظومة دولة «أخ أصغر» سابحة في فلك «أخ أكبر»، في زمن شهد انقراض هذه الظاهرة دولياً. وثالثها أنه كرس خللاً ميثاقياً في تركيبة الحكم الداخلي على حساب الجماعة المسيحية، ورابعها وأخيرها أنه توسَّل لتغطية أقطابه الثلاثة السابقة، نظاماً حديدياً مسّ بحريات الشخص الإنساني وحقوق المواطن الفرد.
هكذا استعاد المسيحيون تدريجاً مشروعية نضالهم، حتى حملوها طوال أكثر من عقد، حتى جاءت التحولات الخارجية لتثمر رفضهم، ولتكمله برفض مقابل من جماعات لبنانية أخرى، فكان الخروج السوري من لبنان. قد يكون من المبكر في هذه اللحظة القول إذا كان مشروع قائد الجيش رئيساً للجمهورية قد انطلق أو أنجز، غير أن الأكيد أن مجرد طرح الفكرة، ومن قبل فريق الموالاة نفسها، يعيد إلى الأذهان والواقع بعضاً من صورة الحروب المسيحية عام 1990.
ذلك أن المدققين في عمق المواقف يلاحظون أنه على عكس التصريحات المعلنة، ما من سياسي مسيحي موالٍ واحد، يؤيد العماد ميشال سليمان مرشحاً رئاسياً، تأييداً إرادياً طوعياً واقتناعياً. وبين الترحيب المتحفظ والصمت البالغ والبليغ، يكفي استذكار الرفض القاطع لهؤلاء قبل أسابيع قليلة، دليلاً قاطعاً على مرارة الكأس التي يطلب إليهم تجرعها، والتي لمّح إليها صراحة سمير جعجع بعد لقائه أمين الجميل أول من أمس.
ذلك أن التناقض بين مشروع قائد الجيش رئيساً، ومشاريع السياسيين المسيحيين الموالين، عميق، وهو موقع على ثلاثة مستويات. فهو تناقض على مستوى المصالح الشخصية، ذلك أنه يبعد مرشحي الموالاة الموارنة عن حظوظ الرئاسة، وهم المرشحون الذين طالما تباهى الفريق المسيحي في السلطة، بأنهم وحدهم من يملك سعد الدين الحريري الحق والتوكيل والتكليف للتفاوض حولهم ومن أجلهم. فإذا بالحريري ورعاته الإقليميين والدوليين يقفزون فوق تلك الأسماء من دون استشارتها ولا استئذانها. وهو تناقض على المستوى السياسي، ذلك أن خطاب مسيحيي السلطة كان يركز في عرضه مواصفات الرئيس المقبول منهم، على مفاصل أساسية، أبرزها الموقف من سلاح حزب الله ومن النظام السوري، وأن يكون من أبناء ثورة الأرز. حتى إن أركان هذا الفريق لم يتورعوا علناً عن التذرع لرفض ترشيح العماد ميشال عون، بمزاعم التفاهم بين تياره والحزب، والموقف من «الحرب السورية المستمرة على لبنان»، والخروج من حركة 14 آذار، على حد قولهم، ليفاجأوا باضطرارهم إلى القبول القسري بمرشح، لم يخضعوه لتلك الشروط ولم يعطوه علامة نجاح في امتحانهم المتخيل.
وتناقض مسيحيي السلطة مع ذواتهم، هو ثالثاً والأهم، تناقض بنيوي بين طبيعة أشخاصهم وتكتلاتهم السياسية وخيار العماد سليمان رئيساً، إذ لطالما كان هؤلاء نسخة مطابقة وغير معلنة للارتياب الجنبلاطي التقليدي والتاريخي حيال العسكر ومؤسساته وأشخاصه، حتى إن بعضهم كان ينظّر علناً لخطر العسكرتاريا اللبنانية المقنعة أو المعلنة على لبنان النظام والكيان، إن لجهة الطابع التعددي للسلطة أو لجهة نقل التنافس إلى الساحة المارونية، أو لجهة تأثير حجم القطاع العام للدولة اللبنانية، والأجهزة العسكرية قسمها الأكبر، على طبيعة العمل الحزبي للحياة السياسية اللبنانية.
فجأة تبدو كل تلك التناقضات عرضة للطمس. هل الدافع الخروج من المأزق الخطير وتجنب الفراغ القاتل لموقع المسيحيين، وربما لوجودهم وبالتالي للبنان؟ أم هو مجرد التخلص من ميشال عون، كما كان سنة 1990؟ مع الفارق أن نظرية «القتيل والجريح»، في حال تطبيقها اليوم، لن تترك لمسيحيي السلطة مشروعية النضال التي اكتسبت مصادفة بعد الاجتياح السوري. فلا جيش أجنبياً اليوم، ولا هيمنة سورية، ولا خلل ميثاقياً، ولا اعتقال سياسياً ولا نفي.
فماذا يبقى من الخطاب والنضال ومشروعية الاستمرار، إلا الشخصنة وأخواتها والعائلات؟
سؤال، قد ينتظر كتابة المذكرات، لمعرفة الإجابة.