نقولا ناصيف
تقارب واشنطن انتخابات الرئاسة اللبنانية قبل أكثر من شهر من بدء مهلتها الدستورية، من بوابات ثلاث: وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ومساعدها لشؤون الشرق الأوسط دافيد ولش، والسفير في بيروت جيفري فيلتمان الذي ينتظر نهاية ولاية الرئيس إميل لحود حتى يغادر مهمته في لبنان. والثلاثة يقصرون المواقف الرسمية للإدارة الأميركية على جزء من روحية القرار 1559، دون الخوض في تفاصيل أوسع: إجراء انتخابات رئاسية حرة بلا تدخّل سوري، وفي الموعد الذي تحدّده المهلة الدستورية، وترك اللبنانيين يختارون رئيسهم بأنفسهم. وامتاز كل منهم بطريقة خاصة في صوغ هذا الموقف: رايس لا تريد رئيساً موالياً لسوريا يذكّر بالاحتلال السوري، وولش مع إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده المقرّر، وفيلتمان ينأى بنفسه ـــــ وإدارته ـــــ عن الخوض في الأسماء التي هي شأن محض لبناني، ولأن مجلس النواب هو مَن ينتخب.
غير أن معلومات دبلوماسية رفيعة المستوى، تحدّثت عن احتمال حصول تطوّر مهم في الموقف الأميركي حيال الاستحقاق الرئاسي في وقت قريب، وربما في بضعة أيام، تطلقه رايس، ومفاده أن واشنطن ضدّ إدخال تعديل على الدستور اللبناني لإجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية. وتشير المعلومات الدبلوماسية نفسها إلى أن روحية التحرّك الأخير لفيلتمان، وبضعة استفسارات وأسئلة وإيحاءات طرحها على عدد من السياسيين والشخصيات اللبنانية، عبّرت عن هذا الموقف، دون أن يجهر به صراحة. والأصحّ أن إطلاق موقف كهذا من واشنطن، يضفي عليه جدية وخطورة أكثر دلالة، ويجنّب السفير في بيروت إحراجاً وانتقاداً من الأفرقاء اللبنانيين المناوئين للأميركيين، أضف أن الإعلان عنه من واشنطن أيضاً يمثّل وجهاً إضافياً لمضي السياسة الأميركية في لبنان في خطواتها، وإنهاء كل صلة اتصال مباشرة أو غير مباشرة تعبّر عن استمرار النفوذ السوري في هذا البلد.
لكن الموقف الأميركي المرتقب، يعكس في الوقت نفسه بضعة معطيات ذات مغزى، بينها:
1 ـــــ استبعاد وصول قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة إلى رئاسة الجمهورية. ويبدو أن الموقف الأميركي الجديد يطاول القائد أكثر منه الحاكم، بعدما اتسعت مروحة تداول اسم الأول في الاستحقاق الرئاسي، وخصوصاً على أثر المواجهات الضارية التي خاضها الجيش منذ 20 أيار الفائت في مخيم نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام»، ودفعت به إلى واجهة الحدث السياسي ـــــ لا العسكري والأمني فحسب ـــــ على أنه القوة الوحيدة القادرة على حماية النظام والاستقرار، والأكثر تماسكاً إزاء ما نتج من حرب الشمال. فضلاً عن المأزق المزدوج الذي تتخبط فيه قوى 14 آذار والمعارضة، وتعذّر استئثار أي منهما بإدارة الاستحقاق الرئاسي منفرداً، أو إيصال المرشح الذي يريده إلى المنصب في معزل عن الآخر، الأمر الذي عزّز حظوظ البحث في توافق على مرشح يرضي الطرفين في آن واحد، ويبعد شبح الفوضى عن البلاد. بل أضحى المرشح التوافقي حلاً حتمياً في ظلّ تسليم طرفي النزاع ـــــ ضمناً وعلناً ـــــ بأنه لا انتخابات رئاسية بلا نصاب ثلثي مجلس النواب.
2 ـــــ تحوّل مهم طرأ على حوار كان قد دار في أكثر من جلسة عمل بين قائد الجيش والسفير الأميركي، وخاض أحياناً في ملفات سياسية بالغة الدقة والحساسية، على نحو أبرز اهتمام الإدارة الأميركية بجوانب محددة في طريقة تفكير سليمان، ومواقفه من هذه الملفات والخيارات المتاحة أمامه للخوض فيها، فضلاً عن الدور الذي اضطلع به الجيش في مواجهة «فتح الإسلام».
وبحسب مطلعين على جوانب من تلك الجلسات، فإنها أحرزت «تقدّماً في البحث السياسي».غير أن هذا التحوّل انكفأ في الأيام الأخيرة، وأثار علامات استفهام تزامنت مع وصول معلومات دبلوماسية، مصدرها واشنطن، إلى بيروت، أفادت بأن تراجعاً مفاجئاً طرأ على الموقف الأميركي من الاستحقاق الرئاسي والنظرة إلى المرشحين الجديين له. وذكرت المعلومات نفسها أن رايس عدّلت في اقتناعاتها، وباتت تتحدث عن عدم تأييد أميركي لتعديل المادة 49 من الدستور اللبناني لإجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية.
ومع أنه لا موقف إعلامياً أميركياً جلياً حتى الآن يتعلق بالوجهة الجديدة للإدارة الأميركية حيال هذا الموضوع، فقد روت المعلومات الدبلوماسية أن الوزيرة الأميركية عازمة على أن تتولى بنفسها إعلان الموقف الجديد، على نحو مماثل لما أطلقته ـــــ بل افتتحت ـــــ الحملة الأميركية حيال استحقاق 2004 من دار السفارة اللبنانية في واشنطن في 12 آذار 2004، بأن خرجت في احتفال السفارة عن نص مكتوب، وأعلنت معارضة إدارتها، وكانت تشغل حينذاك منصب مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، تعديل الدستور للتمديد للرئيس إميل لحود والتدخّل السوري المباشر في الاستحقاق الرئاسي، وحرمان اللبنانيين حقهم في اختيار رئيسهم. وما لبث أن أصبح هذا الموقف، بعد أشهر، في صلب القرار 1559 الذي أصدره مجلس الأمن في 2 أيلول 2004، حاضّاً على انتخابات رئاسية لبنانية حرة بلا تدخّل خارجي ووفق الأصول الدستورية، في إشارة صريحة إلى معارضة دولية لتمديد ولاية لحود.
3 ـــــ يتعارض الموقف الجديد، والمرتقب، للدبلوماسية الأميركية مع ما أدلى به السفير في بيروت، في حوار تلفزيوني مع الزميل مرسيل غانم في 5 تموز الفائت، أشاد فيه بالجيش ومواجهته تنظيم «فتح الإسلام»، وتأكيد دعم إدارته المؤسسة العسكرية وتسليحها، وإعلانه صراحة أن واشنطن لا تمانع في تعديل دستوري يتوافق عليه اللبنانيون لإجراء الاستحقاق الرئاسي، ولم يكن فيلتمان يتجاهل ليلتذاك المقصود بالتعديل الدستوري والشخصية المعنية به وهو يطري قائد الجيش. وميّز بين تعديل دستوري بملء إرادة اللبنانيين، وآخر بضغط سوري على نحو ما حصل في التمديد للحود قبل ثلاث سنوات.
وينطوي الموقف الأميركي الجديد على مقاربة انتخابات الرئاسة اللبنانية، بطريقة حصر الخيارات وتضييق الفرص الدستورية والسياسية، باعتماد آلية استبعاد المرشحين تدريجاً، واحداً بعد آخر، قبل إجراء المفاضلة بين اثنين أو ثلاثة حداً أقصى.
4 ـــــ تحدّثت المعلومات الدبلوماسية نفسها، عن دور دؤوب لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة لدى الإدارة الأميركية في إحداث التحوّل في موقف وزيرة الخارجية، أكثر المسؤولين الأميركيين حماسة للسنيورة وحكومته، وأبرزهم تأييداً له في الخطب التي تأتي على ذكر لبنان فيها. ويبدو واضحاً أن المقصود ظاهراً هو ما كانت قد تسلّحت به واشنطن عام 2004، بتأكيد معارضتها تعديل المادة 49 من الدستور اللبناني، وانتهاك أحكامه والإصرار على انتخابات رئاسية حرة وديموقراطية، فيما ينطوي المقصود على بعد ضمني آخر، هو إخراج قائد الجيش من السباق إلى الرئاسة.
أما ما بين رئيس الحكومة وقائد الجيش، ففيه ما فيه.