كان | انطلق «مهرجان كان السينمائي» في دورته السابعة والسبعين، كما أراد المفوض العام للمهرجان تييري فريمو من دون جدالات ولا مجادلات. «لا أخفي سراً بالقول إنّه كان هناك بعض الجدل العام الماضي. لذلك، قررنا استضافة المهرجان هذا العام من دون الخوض في أي مجادلات. حرصنا على ضمان أن يظل الاهتمام الرئيسي هو السينما»، مضيفاً: «إذا كانت هناك أيّ مجادلات أخرى، فهي لا تعنينا». هكذا قطع فريمو الطريق على أي نقاشات راهنة تعكس ما يحدث اليوم في العالم على رأسها فلسطين.وكان لفريمو ما أراد! بدأ المهرجان من دون أن يعكّر صفوه شيء، وتوالى النجوم والمشاهير ولجان التحكيم على السجادة الحمراء. قدمت الاحتفال الممثلة الفرنسية كامي كوتّان التي قالت: «نحن نشاهد الأفلام طوال اليوم ونناقشها طوال الليل. لا أحد يتحدث اللغة نفسها، لكننا جميعاً نفهم بعضنا. عندما نغوص في الظلام هنا، فإن ذلك للعثور على النور. يبدو الأمر جنونياً، لكن الأكثر جنوناً في هذا أنه حقيقي. إنه ليس عالماً موازياً. هذا العالم موجود. هذا هو المكان الذي يجتمع فيه عشاق السينما من جميع أنحاء العالم. مكان للقاءات والحوارات والنقاش والتأمل والثقافة والسحر. وفي وقت يشهد فيه العالم أحداثاً مثيرة للقلق تقشعر لها الأبدان، وتقسم الشروخ العميقة الشعوب، ويحترق كوكبنا، ويتعرض ذكاؤنا الجماعي للتهديد بأن يصبح اصطناعياً، فإنّ مكان التجمع هذا هو ضربة حظ. في كل عام، نأتي إلى مدينة كان لالتقاط صورة لإنسانيتنا؛ نأتي لنمتلئ بالأمل». بعد مقدمة الافتتاح وكلمات كوتّان، ودخول لجنة التحكيم، خرجت الممثلة جولييت بينوش، التي قدمت سعفة كان الفخرية للممثلة الأميركية ميريل ستريب، لتعلن افتتاح الدورة الـ77 من المهرجان.
بعدما بدأت الشائعات والاتهامات تكثر عن سلوك عددٍ من الممثلين والمنتجين والمخرجين الفرنسيين في ما يتعلق بالتحرش الجنسي في السنوات الأخيرة (كما حدث هذه السنة قبل بداية المهرجان)، وبينما تحاول السينما الفرنسية تجديد نفسها، أخرج الفرنسي كونتين دوبيو رأسه من بين الجموع، ومدّ لنا لسانه، ولعب بخفة بهلوان على الخطوط الحمر. في فيلمه «الفصل الثاني» (The Second Act - فيلم الافتتاح ـــ خارج المسابقة)، قدم لنا ديبيو مزيجاً من الحقيقة والخيال، التمثيل والحياة الحقيقية، وفيلماً داخل فيلم، ويبقى لنا أن نحاول أن نرى بينهما، عبر الحوارات، وعبر الطريقة الذكية التي كسر فيها الجدار الرابع.
تريد فلورانس (ليا سيدو)، أن يلتقي والدها غيوم (فنسان ليندن)، بديفيد (لوي غاريل)، الرجل الذي تحبه بجنون، لكنّ ديفيد يريد أن يرمي فلورانس في أحضان صديقه ويلي (رافاييل كينار). يلتقي الأربعة في مطعم قديم يقع في مكان مجهول. قد لا تبدو القصة هذه مغرية أو محفّزة، لكن مع بداية الفيلم تبدأ الأحداث والمفاجآت، والطرافة والفكاهة السوداء، والخدع التي يحبها دوبيو مع جمهوره. ما نشاهده هو فيلم داخل فيلم، مع اقتباسات عن «تايتانيك» وبول توماس اندرسون وقبل أي شيء عن صناعة الأفلام اليوم، والذكاء الاصطناعي، والفصل بين الفن والفنان، وإساءة استخدام السلطة في السينما، والسينما في زمن ديكتاتورية «الصوابية السياسية»، وإمبراطورية ثقافة الإلغاء.
يحب دوبيو الدخول إلى منتصف المنطقة الحدودية، بين ما هو حقيقي وغير حقيقي، وكشف نفاق عالم الترفيه. مع ذلك، ليس لدى «الفصل الثاني»، ما يكفي للاستمرار حتى مع مدته القصيرة التي تقلّ عن 80 دقيقة. بمجرد أن تصبح حيلة الفيلم مكشوفة، يبدأ دوبيو بالـ«الكوميديا الفوقية»، التي تنتزع ابتساماتنا. نجح دوبيو في تقديم الكثير من الحيل والمفاهيم المتعلقة بتطوّر استخدام الذكاء الاصطناعي في بناء الأفلام وبناء هذا الفيلم بالتحديد، والتركيز على التمثيل والحياة الحقيقية للممثلين وحتى الغرور. كما عرّج على الدراما التي لا تتطابق مع كمية الجنون الموجودة في الفيلم. أبدع في تسليط الضوء على كل المواضيع التي يريد أن يناقشها، لكنّه وقع في فخ الحيلة التي رسمها بنفسه. بمجرد كشف الفيلم عن نفسه في البداية، أصبح كل شيء كأنه مسودة أولية لفيلم. يكمن سحر الفيلم في الممثلين المشهورين الذي تناغموا بشكل مثالي، وأسهموا بكل ليونتهم في إقناعنا بهذا الهذيان، من دون تحفظات كبيرة وبسخافة مبالغ فيها، وهذه شروط أفلام دوبيو.
قد لا يكون فيلم افتتاح «مهرجان كان»، أكثر الأعمال إلهاماً أو إثارة، ولكن لا نقص في ما أراد دوبيو أن يقدمه. بداية موفقة للمهرجان مع كوميديا تتركنا في حالة من الإرباك، ولا نعرف حقاً إن كان علينا أن نأخذ فيلمه على محمل الجد، أو تقبّله كما هو بكل عبثيته المفرطة.