كان ماركس يقول إن التاريخ يُعيد نفسه بداية كمأساة ومن ثم كملهاة. مع قضايا البيئة في لبنان حصل العكس بدأت كملهاة مع الجمعيات البيئية وانتهت مأساة كبيرة، بعدما ضرب التلوّث كل شيء بشكل لا عودة عنه في معظم الحالات: عجز كامل عن حل مشكلتَي النفايات الصلبة والسائلة، المنزلية منها والصناعية والسياحية، ما تسبب في تلوث التربة والمياه السطحية والجوفية بنسب عالية جداً؛ الغطاء الأخضر يتناقص سنة بعد أخرى رغم عمليات إعادة التحريج الفولكلورية في معظمها بسبب القطع التجاري والمافيوي لما تبقّى من أحراج والذي زاد مع الأزمة الأخيرة؛ أجهزة الرقابة انهارت مع انهيار الدولة؛ الصحن اليومي التقليدي للناس ما عاد آمناً كما مياه الشرب؛ نوعية الحياة تراجعت مع تزايد المشكلات البيئية الحياتية التي تحولت إلى قضية وجود، شبيهة بالمشكلات النووية التي شهدها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية ودفعت مخاطرها إلى تأسيس الحركات والأحزاب الخضراء. قضية وجودية كالبيئة ما كان يُفترض أن تترك للجمعيات ولا حتى لوزارة البيئة وحدها. وهذه الأخيرة تصرفت في الفترة الأولى من تاريخ إنشائها بداية التسعينيات كـ «أكبر جمعية بيئية في لبنان».
لطالما كان هناك انقسام وتفاوت بين أنصار البيئة، كما في كل أنحاء العالم؛ بين ناشطين ومناضلين وعاملين ومتطوعين؛ بين من استشعر القضايا الوجودية ومن انزعج من مشكلات محددة قريبة؛ بين من انزعج من رائحة النفايات ومن اعتبرها قضية حضاريّة؛ بين من اعتبر البيئة هي بيئة المنزل أو أمامه ومن اعتبرها قضية كونية؛ بين من انزعج من مرملة أو كسارة أو مجاري صحية أو مستوعب نفايات قريب من منزله، ومن فكر بأن ما نرميه الآن خلف ظهرنا، إنما نرميه في وجه أناس آخرين وأجيال قادمة؛ بين من اعتبر البيئة مسألة نظافة وتحريم رمي شيء من نافذة السيارة ومن اعتبر أن التحول من النقل العام إلى الخاص سيخلق مشكلة أعمق من الناحية الاقتصادية والبيئية والصحية… الخ
الانقسام تمحور أيضاً (تاريخياً) حول قضايا التمويل بين من يشدد على ضرورة أن تكون له شروط وقواعد وأخلاقيات… ومن يجد في القضايا والأزمات فرصة للارتزاق. كما كانت هناك اختلافات بين الاتجاه للمناصرة والقيام بحملات صغيرة حول قضايا محددة، أو الاتجاه لتأسيس أحزاب جديدة لديها رؤية أكثر شمولية وتدعو للتغير الشامل؛ بين التخصصية في الملفات وبين ضرورة أن تحمل الحركات البيئية برنامجاً ثورياً شبه متكامل يبدأ بإنتاج ثقافة وأخلاقيات وسياسات جديدة أولاً.
تلطّي البعض وراء التخصصية كان من أجل هدفين على الأقل، دفعت الجمعيات والبيئة عنهما غالياً. الأول لإظهار الاستعداد لمواكبة العصر وثقافة الجهات المانحة، إضافة إلى مدارات العلوم الحديثة، والثاني لأسباب تمويلية. إذ يمكن لمن يناصر من أجل الدفاع عن غابة أن يغض الطرف عن تلوث شركات الإسمنت إذا ساهمت في دعم جمعيات! ويمكن لمن يناصر في حملات ضد المقالع أن يغضّ الطرف عن شركات المبيدات والمخصّبات الكيميائية التي تسيطر على القطاع الزراعي بأكمله وتتسبّب بتلوث التربة والمياه والإضرار بالصحة، وتستغل المزارعين… الخ.
هذه التخصصية التمويلية هي التي حولت المناصرة إلى تسكع، ثم إلى احترافية في كيفية كتابة المشاريع الوهمية وغير المجدية في نتائجها، مع كثير من العلاقات العامة لإرضاء المانحين وأجنداتهم. هذه التخصصية الاحترافية لقطاع ما يسمى المجتمع المدني نجحت في الحصول على تمويلات تتجاوز بحجمها موازنات الوزارات المعنية، حتى تجاوزت ميزانيات بعض الجمعيات أخيراً ملايين الدولارات أو اليوروهات، فيما تعجز وزارة البيئة عن دفع فاتورة الكهرباء!
في الحصيلة، تراجعت الملفات والقضايا بشكل دراماتيكي بالتزامن مع صعود التمويل والاحترافية والتخصصية وتحوّل جمعيات المدافعة إلى قطاع خاص يبغي المشاريع والربح! وأصبح التنافس على الحصول على تمويل أشد وأهم من النضال من أجل قضايا باتت وجودية بالنسبة إلى المجتمع. وهذا ما يفسر ترك «التجمع اللبناني لحماية البيئة» و«الحركة البيئية» لـ«التحالف المدني البيئي» الذي تأسس قبيل الأزمة وعلى أجندته أكبر القضايا الملحة، من أجل إدارة مشروع من خارج السياق تحت عنوان «بحر بلا بلاستيك»، بسبب وجود تمويل أوروبي بمليون يورو!
تاريخياً، حصلت أكثر من محاولة للتوحيد وإيجاد قواعد مشتركة للعمل والتمويل ووضع برنامج شامل ينطلق من خلفية شبه أيديولوجية، كانت ضرورية… إلا أن مغريات التمويل كانت أقوى من متطلبات القضايا.
في البداية، كان مطلوباً من وزارة البيئة كما من الجمعيات الحفظ والحماية، وقد ظن البعض أن الاستعانة بما عرض (مع التمويل) من مفاهيم مثل «الاستدامة»، كافٍ لمواكبة العصر وإرضاء دوائر الأمم المتحدة والجهات المانحة والجمهور، بأن هناك من يحرص ومن يعلم ماذا يفعل، وخصوصاً إذا ما تم إتقان استخدام اللغات الأجنبية المنتجة للعلوم والدراسات والمال… وقد فاتهم أن من أنتج مفهوم الاستدامة كان من أجل التغطية على ارتكابات مفهوم سابق، سبق أن تم إنتاجه وترويجه أيضاً من الدوائر المسيطرة نفسها، وهو مفهوم «التنمية» الذي، من فرط تقديسه في مجتمعاتنا على يد الجمعيات نفسها تقريباً، وتسبب في تدمير الموارد واستنزافها، والتي نعود الآن ونبحث عن استدامتها بعد فوات الأوان في كثير من الحالات والقضايا!
كان الهدف مما يسمى «التنمية» بيع التكنولوجيا ومنتجات الدول الصناعية المتقدمة. إلا أن هذه الدول التي ادعت التقدم والمساعدة في التنمية، دمرت البيئة والموارد كما غيرت المناخ العالمي في انبعاثات تنميتها... وبات البحث الآن في كيفية التعويض عن الخسائر والأضرار والكوارث المناخية من فيضانات وحرائق غابات وجفاف وتصحر وتلوث تربة ومياه وأمراض وأوبئة جديدة… نجمت كلها عن التغيرات المناخية. هذه التعويضات تقدر بتريليونات الدولارات، وهذا ما يفسر شروط التمويل الصغير لجمعيات صغيرة ومشاريع أصغر (لا معنى لها ولا جدوى منها في معظمها)، من قبل دول كبرى في تقدمها وثرواتها وكوارثها… وتكون هذه الجمعيات في هذه الحالة، مجرد غطاء مبيّض لصفحتها أمام المجتمعات المنكوبة وبأرخص الأثمان.
أمام هذا الواقع الأليم، وإن كان لا بد من فكر ثوري جديد ومنقذ، فعليه أن ينطلق إما من مراجعة ذاتية، وهذا مستبعد، وإما من قوى اجتماعية جديدة تحمّل هذه الجمعيات الممولة مسؤولية هدر الحقوق والتعويضات وسوء التعامل مع الدول المانحة بتبعيتها … كما تحملها هدر الثقة ومعنى القضايا التي ظن الناس أنها تدافع عنها. على أن تكون مهمتها المركزية أيضاً إعادة الرهان على الدولة ودورها بعد إصلاحها، بدل منافستها وادّعاء أخذ دورها.