يعتقد البعض بـ«تفاهة» القضايا البيئية مقارنةً بالقضايا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي عرفتها البشرية وخيضت حروب من أجلها. وهو اعتقاد غير صحيح عند من تعمّقوا في البحث في مدى الترابط بين هذه القضايا. والتعمّق، بالمعنى البيئي، لا يعني الحفر والتنقيب والذهاب بعيداً في الباطن، بل قد يعني الذهاب بالعرض والطول والاتجاهات المتعددة، تماماً كما نتعلم من علمَي البيولوجيا والتنوع البيولوجي. التعمّق في البيئة لا يعني التخصّص في علومها فقط، بل خرق الخصوصيات والتخصّصات كمقدّمة للربط في ما بينها. ولفهم البيئة ومعالجة إشكالياتها القاتلة والوجودية، يجب تجاوز البيئي إلى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي… والعكس صحيح أيضاً. من هنا، يفترض أن تتدخّل الفلسفة البيئية اليوم في كل قضايا العصر، وعلى رأسها القضايا الإشكالية الحديثة مثل المثلية، أو ما يسمى «الشذوذ الجنسي». ومع التحفّظ على الفهم الدارج لهذا التعبير، قد يبدو هذا «الشذوذ» أرحم «الشذوذات» و«الشواذات» التي تواجه مجتمعاتنا الحديثة، قياساً إلى تلك المخالفة للدساتير والقوانين، وإلى الفساد في القضاء وأنظمة الحكم والاعتداء على الطبيعة وتخريب أنظمتها الإيكولوجية.
لتعريف الشيء يفترض تمييزه واختيار الخاصّية الأقرب إليه. كما أن تعريف الشيء يعني تحديده، أي معرفة حدود معناه التي تفصله عن معان أخرى لأشياء أخرى. في هذه الحالة، يصبح الشذوذ خروجاً عن الطبيعة أو العادة، باعتبار أن العادة هي طبيعة ثانية أيضاً، كما كان يقول أرسطو.
يقال إن «الطبيعي» هو لقاء الجنسين والإنجاب. ولكنّ الطبيعة، قبل التدخل الاستثماري الإنساني المفرط فيها وقبل تحدّي النوع الإنساني قوانينها، كانت تهذّب نفسها بنفسها، إن عبر ما يُصنّف كوارث طبيعية أو عبر أمراض وبائية تحافظ على التوازن بين عدد السكان وموارد الطبيعة. وعندما خرجنا عن قوانين الطبيعة عبر التنقيب والاستخراج، أو عبر صهر المعادن والتعدين، أو عبر الصناعات الكيميائية واختراع الأدوية التي تسبّبت بزيادة الحياة والسكان… حصلت اختلالات عميقة في توازن الطبيعة. وكان يفترض اعتبار هذا الخروج شواذاً أو بداية شذوذ.
أهم المشكلات التي تواجه البشرية اليوم هي تخطّي حدود النوع ونشوء الأمراض الوبائية المشتركة بين الإنسان والحيوان وتغيّر المناخ وانقراض الأنواع وتهديد النوع الإنساني نفسه. بهذا المعنى ليس الشذوذ في الجنس ما يهدّد الطبيعة أو المجتمع، بل الشذوذ في النوع. فقد بات النوع الإنساني نفسه شاذاً. وليس بين الأنواع التي نعرفها، لا النباتية ولا الحيوانية (بحسب علومنا)، من فكّر باستخدام الكيميائيات للإبادة كما هي حال النوع الإنساني مع استخدام «المبيدات» لإبادة أنواع إنسانية أخرى بداية، ومن ثم استخدامها لإبادة أنواع أخرى نباتية وحيوانية أُطلق عليها اسم آفات وأمراض!
يقال إن الخوف من «الشذوذ الجنسي» هو على العائلة التي يتكوّن منها المجتمع. ولكن ما هي العائلة، وما أهم مميزاتها؟
أهم ما في قيم العائلة الإنسانية ليس الإنجاب، الخاصية المشتركة مع الكثير من الأنواع غير الإنسانية التي تعيش على شكل مجموعات أو مجتمعات. الخاصية الأساسية لتعريف العائلة هي التضحية والتضامن والحب والتسامح وتحمّل مسؤولية تأمين شروط الحياة. هنا يصبح الإنجاب بمعنى التضحية في التربية والفرح في التسبب بوجود كائن جديد. ولكن كان يفترض أن تكون لهذا الاتجاه حدوده أيضاً التي تنتهي بتحمّل مسؤولية تأمين الشروط الملائمة للحياة. فعندما يستهلك جيل معين أو جيلان موارد شبه ناضبة أو يتسببان بانقراض أنواع أو تخريب أنظمة إيكولوجية ضرورية للحياة، يكون قد أخلّ بواجب تأسيس العائلة وحمايتها. ويصبح الهدف من الإنجاب العائلي مجرد شعور أناني لحفظ اسم العائلة والتوريث… ومعاكساً تماماً لفضيلة التضحية العائلية.
تغيّر زمن القناعة كثروة والكفاية كفلسفة حياة، وباتت متطلبات الحياة الحديثة في غاية التعقيد والتهديد. ما عادت تأتي مع الولد «رزقته»، حسب المثل العامي. هذا كان يصحّ قبل أن نتجاوز حدود الأمراض الطبيعية بصناعة الأدوية، وقبل أن تصبح أعداد النوع الإنساني بالمليارات، وقبل أن نخرب هذه «الرزقة» ونتسبب في نهايتها. هذا القول لم يعد يصح مع الأمراض الشخصية والاجتماعية الحديثة مثل انفصام الشخصية، أي بين شخصية فردية واجتماعية تريد الحفاظ على معتقدات قديمة والعيش بحياة حديثة في الوقت نفسه. كذبة الدمج بين نموذجين حضاريين أدّت إلى كوارث. الاعتقاد بوجود الرزق وبالله المقسّم للأرزاق وبالقضاء والقدر شيء، والاعتقاد بالقدرة على خرق العادات والقوانين الطبيعية والتقدّم العلمي ونتائجه شيء آخر تماماً. فمن يرد أن يأخذ مضادات حيوية لمحاربة الأمراض ولقاحات لتجنّب الأوبئة، عليه أيضاً أن يأخذ أدوية منع الحمل. فإما أن نترك لقوانين الطبيعة أن تصحّح بنفسها أي خلل أو زيادة في عدد الأنواع، وإما أن نقبل بنظام يتدخل بحدود لم نعد نعرف من يحدّدها. فالاستنسابية والانتقائية في هذا المجال باتتا خديعة مرضية وقاتلة، تدخل النوع الإنساني المنتج لهذا النوع من العائلات في أزمة وجودية قاتلة أيضاً ومهدّدة للنوع.
بهذا المعنى، يصبح زواج المثليين وعدم الإنجاب بمثابة تضحية من أجل الطبيعة.
باتت المشاكل الحديثة المصنّفة وجودية، تتجاوز مسألة الحريات واحترام خيارات الأفراد والجماعات. صحيح أن مقولةَ أن حق أي إنسان يتوقف عند عدم الاعتداء على حقوق الآخرين، لا تزال صالحة كقاعدة عامة، ولكن بشرط أن يتم تمديد معنى «الآخرين»، ليشمل الأجيال القادمة وباقي الكائنات التي نتشارك معها في وحدة الحياة والمصير.
لا يبدو على المثلية حتى الآن أي خطورة شبيهة بزواج القربى الذي تسبّب تاريخياً بولادات مشوّهة. ويقال إن أول قانون عرفته البشرية هو تحريم زواج القربى الذي تسبّب بكوارث خلقية، مع الإشارة إلى أن تحريم زواج ذوي القربى فتح المجال لاحترام التنوّع والتنويع كقاعدة أخلاقية. وهي القاعدة التي يُفترض أن تُحترم اليوم وتُحفظ أكثر من أي يوم مضى.
كما بات علينا أن نتحدث ونقيّم بمسؤولية أكبر، وأكثر امتداداً، لتشمل تحمّل تبعات تقديسنا لأفكار لم تجلب إلا الكوارث، مثل التوحيد والتقدّم والتنمية التي انطلقت مع ما يسمى الثورات العلمية والصناعية. «الثورات» التي تسبّبت باختراقات ما كان يفترض أن تخرق، مثل طبقات الأرض وجدار الصوت وحدود الأنواع… والتي لم تحصل إلا على جثث آخرين أو على استهلاك موارد حتى استنزافها، وهي كانت من حق آخرين وأجيال أخرى.
تاريخياً، عرفت البشرية تقديم الأبناء كأضحية من أجل الآلهة والآخرين. الآن نحتاج إلى من يضحّي من أجل الطبيعة وإنقاذها أيضاً… من دون تقديس هؤلاء بالطبع ولا اعتبارهم شهداء الطبيعة.