دبي | كان متوقّعاً، في ظلّ الأجواء التنافسية الدولية على الموارد والأسواق، تعثّر أي محاولة جدية للتعاون لإنقاذ المناخ. وكان متوقعاً، في جوّ الحروب شبه العالمية التي تخاض في أوكرانيا وغزة، أن تذهب أموال الصناديق المخصصة لتمويل التخفيف والتكيّف مع تغيّر المناخ، إلى تمويل الحروب التي تعدّ في أحد وجوهها حروباً على الطاقة. وبالفعل، أظهر اجتماع الدول الموقّعة على الاتفاقية الإطارية لتغيّر المناخ عام 1992، والذي عُقد هذا العام في دبي (بين 30 من الشهر الماضي و13 الجاري)، أن التناقضات التاريخية بين التعهدات الدولية في مؤتمرات المناخ (بالاهتمام بالقضية الأهم التي تواجه الكوكب) وحقيقة سياسات الدول ومصالح الشركات الكبرى، لم تتغيّر، منذ أن انتقل العالم من الحديث عن التغيّرات المناخية كسيناريوات محتملة إلى الحديث عن الكوارث المناخية كواقع ملموس لم تسلم منها أي دولة في العالم. رغم ذلك، لم تتغيّر الاستراتيجيات داخل الدول، ولا تغيّرت استراتيجيات التفاوض في ما بينها، في مؤتمرات المناخ السنوية. فبقيت حتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان البيان الختامي تتفاوض على مفردات ومشاريع نصوص، يعرف معظم المشاركين في صياغتها أنها لن تكون ملزمة إلا معنوياً أو شكلياً، ولن تغيّر بشكل حقيقي في سياسات الدول المسبّبة للكوارث، طالما أنها تتعارض مع المصالح الكبرى للشركات المسيطرة على سياسات الدول وسياسيّيها.ورغم إقرار الدول الموقّعة على اتفاقيات المناخ (من اتفاق الريو 1992 إلى اتفاق باريس 2015) بذلك، إلا أن هذا الموضوع الجوهري لم يرد يوماً على جدول أعمال قمم المناخ. ورغم الاعتراف بأن الوقود الأحفوري هو المسبّب الأول للانبعاثات العالمية التي تسبّبت بتراكمها في الغلاف الجوي في تغيّر المناخ والكوارث، إلا أنها بقيت طوال فترات التفاوض تتنازع بين كلمات مثل «التخلّي تدريجياً» عن الوقود الأحفوري والفحم أو «التخفيف تدريجياً» منه… قبل أن يضاف إلى القاموس، في جولة المفاوضات الأخيرة في دبي، تعبير «بلا هوادة»، علماً أن التخلّي عن الفحم الحجري كان قد ورد في نص البيان الختامي لمؤتمر غلاسكو قبل عامين (كوب 26 عام 2021)، وأطيح بهذا التعهد العام الماضي بعد عودة أوروبا إلى الفحم الحجري إثر تراجع تدفق الغاز الروسي!
وقد خرج إعلان دبي أخيراً بفقرة جديدة تتضمّن «تسريع الجهود نحو التخلص التدريجي من طاقة الفحم بلا هوادة». أما موضوع الوقود الأحفوري الذي أخذ الكثير من الجدل في «كوب دبي»، منذ تعيين رئيس شركة نفطية رئيساً للمؤتمر الى لحظة اتهامه بعقد صفقات جانبية على هامشه، مروراً بكل المداولات التي جرت حول هذا الأمر. ورغم تشدّد الدول المصدّرة للنفط وجهود الشركات الكبرى لعدم التطرق إليه في البيان الختامي، خرج نص قد يعطي إشارة للحديث عن بداية نهاية الوقود الأحفوري، وتضمّن «الانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة، بطريقة عادلة ومنظّمة ومنصفة، وتسريع العمل في هذا العقد الحرج، وذلك لتحقيق صافي صفر انبعاثات بحلول عام 2050 بما يتماشى مع العلم»، أي من دون تحديد كيفية الانتقال والبدائل ومن يضمن استقرار الطاقة والأسواق والأسعار، وخصوصاً أن الإعلان ترافق مع رفع الدعم أو «الإلغاء التدريجي لدعم الوقود الأحفوري». والجميع يذكر كيف طلبت الولايات المتحدة من السعودية زيادة الإنتاج لخفض الأسعار، مراراً وتكراراً، ما يؤكد التناقضات في السياسات والقرارات الدولية والبيانات الختامية لقمم المناخ.
أما في ما يتعلق بالطاقة المتجددة كبديل من الوقود الأحفوري، والذي تحوّل الى أسطورة جديدة، فقد خرج البيان الختامي بضرورة «مضاعفة قدرة الطاقة المتجددة على مستوى العالم ثلاث مرات، ومضاعفة المعدل السنوي العالمي لتحسين كفاءة استخدام الطاقة بحلول عام 2030»، من دون أي إشارة إلى التربة والمعادن النادرة التي تصنع منها أدوات هذه الطاقة المتجددة والمساحات التي تطلبها والكلفة الاقتصادية… الخ. مع العلم أن العالم الذي يعتمد اليوم بنسبة 80٪ على الطاقة الأحفورية و12٪ على الطاقة النووية و2٪ على الطاقة العضوية، لن يلمس أثراً كبيراً لما تبقّى من طاقة متجددة حتى لو تضاعف حجمها، بالنسبة إلى باقي الطاقات، فيما مشاريع التنقيب والاستخراج للطاقات الأحفورية لم ولن تتوقف في معظم البلدان النفطية والغازية وتلك التي تتهيّأ للدخول إلى ناديها حتى عام 2030، على الأقل.
مع هذه المعطيات، أيّ معنى يبقى لذلك الجدل حول تعابير التخلّي والتخفيف والتحوّل والانتقال… التي ضجّت بها قاعات المؤتمر، في وقت سلّم فيه الجميع بالتقييم العالمي لاتفاقية باريس الذي أكد أن الدول في تعهداتها وممارساتها ليست على الطريق الصحيح لمنع تجاوز زيادة حرارة الأرض درجة ونصف درجة، رغم أن الكوارث المناخية في تصاعد بعد ارتفاع درجة حرارة الأرض درجة واحدة، وإن تجاوز درجة ونصف درجة إلى درجتين سيكون كارثياً على العالم أجمع، وأن الفجوة بين الالتزامات واستمرار ارتفاع وتيرة الكوارث باتت أكبر من أن تردم...
كان لافتاً هذا العام، في اجتماع الدورة 28 من مفاوضات المناخ الدولية السنوية، صدور قرار من اليوم الأول بتفعيل صندوق الخسائر والأضرار الذي وضع على جدول أعمال القمة السابقة التي عقدت في شرم الشيخ العام الماضي، والذي يفترض أن يكون مخصصاً للتعويض عن الخسائر والأضرار التي تنجم عن الكوارث المناخية. ورغم تبرع الدولة المضيفة بمبلغ خاص للصندوق، ودول أخرى بتبرعات بين 400 إلى 600 مليون دولار، إلا أن المطلوب هو ثلاثة أضعاف ما كان مطلوباً للتخفيف والتكيّف، أي 300 مليار دولار، قياساً الى حسابات عام 2009، حين تمّ تخصيص صندوق بـ 100 مليار دولار سنوياً ابتداءً من عام 2020، لم تدفع! وتم الإيحاء في قمة دبي أن الصندوق الجديد للخسائر والأضرار شبيه بـ«صندوق التبرعات» بدل أن يكون صندوق «التعويضات» المتوجبة على البلدان المتقدمة والصناعية الى البلدان النامية، وليس بحجم الكوارث المنتظرة!
عقدت القمة الأخيرة في إكسبو دبي. وكانت المرة الأولى التي يعقد فيها هذا النوع من الاجتماعات في مدينة تتجاوز مساحتها الـ 4 كيلومترات، ما صعب على المشاركين التنقل بين القاعات والمشاركة في مئات الفعاليات اليومية، وخصوصا أن عدد المشاركين ضرب أرقاماً قياسية وتجاوز الـ 70 ألفاً. وهنا طرحت أسئلة كثيرة حول جدوى مشاركة هذا العدد الضخم كمصدر إضافي للانبعاثات، وحول ضرورة إعادة النظر في محاور وأجندات هذه الاجتماعات السنوية التي تتزايد أعداد المشاركين فيها سنة بعد أخرى، بالتزامن مع تزايد الانبعاثات والكوارث!