لم يعد تعليق الذبائح على مداخل الملاحم مشهداً مألوفاً. في معظم أماكن بيع اللحوم، أصبحت الذبائح المعلّقة - إن وجدت - أشبه بالزينة، يعلّقها اللحّامون فيما يلبّون طلبات الزبائن من قطع اللحم المكدسة في البرادات، ويقوم البعض بتحضير بعض الأنواع مسبقاً، كاللحم المفروم والشاورما والهمبرغر والمقانق، ليس لتسهيل عمله، وإنما لأنه، ببساطة، يغشّ. إذ يخلط اللحوم المجمّدة المستوردة باللحم الطازج ويبيعها على أساس أنها «بلدي». ولأن قلة من يلتفتون إلى هذا الأمر ولا يميّزون بين الطازج والمجمّد، يمرّ الأمر بسلاسة: «يُضرب» اللحم الطازج بالمجمّد ويباع إلى المستهلك بسعر الطازج، رغم أن أسعار المجمّد أقل بكثير. ويصل الأمر إلى حد قيام بعض اللحّامين بتقديم «عروضات»، فيصل سعر الكيلو إلى ما بين 400 ألف ليرة و500 ألف. هذه «التخفيضات» تدفع إلى السؤال: أي اللحوم نأكل؟ ولماذا لا يتم إعلام المستهلك بما هو معروض أمامه كما يفرض القانون؟ لا أحد يعرف الجواب، ومع الأزمة يكاد يصبح الجواب مستحيلاً، بعدما عزّزت نمطاً هجيناً من الاستهلاك لدى اللبنانيين، فبات التوجه نحو السلع الأرخص هو الغالب، مع التخلي التدريجي عن عادات غذائية ارتبطت بأصناف لم تعد أسعارها في متناول كثيرين. وهذا ما شجّع التجار على البحث عن بدائل تتناسب مع تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين من جهة، وتدرّ عليهم مزيداً من الأرباح من جهة أخرى. وبسبب هذا النمط المتجدّد، لم يعد معظم المستهلكين معنيّين بالسؤال عن النوعية بقدر اهتمامهم بالسعر، وهو ما فتح الباب أمام دخول أصنافٍ وأسماء منتجات كثيرة إلى السوق.
وقد انسحب هذا الأمر بقوّة على اللحوم كسلعة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، إذ بات السعر أيضاً يحكم الاستهلاك، وأصبح المستهلك يبحث عن الأرخص أو «العروضات»، من دون السؤال عن مصدر اللحوم أو نوعيتها. وهذا سمح للتجار ومحال البيع والتعاونيات بعرض أصنافٍ من اللحوم بأسعار متنوّعة، من دون الإشارة في معظم الحالات إلى مصدرها، ومنها اللحوم الهندية المجمّدة التي تدخل السوق بكميات كبيرة لرخص أسعارها من دون أن يتم تحديد نقاط بيعها أو الإشارة إليها. إذ لا تباع كمنتج مستورد، وإنما تُخلط مع اللحوم الطازجة وتباع على أنها «لحوم بلدية». ولا قدرة للمستهلك على كشف هذا الغش، ولا سيما أن اللحوم المجمّدة لا تأتي كذبيحة مكتملة أو أقسام مكتملة من الذبيحة، وإنما على شكل قطع. وهذا ما لا يدركه المستهلك الذي «يدخل إلى الملحمة فيسارع اللحام إلى تلبية طلبه مما هو موجود في البراد، وبذلك لا يعرف المستهلك ما الذي يتناوله»، يقول رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو.
آلاف الأطنان من اللحوم الهندية تُستورد سنوياً و«تختفي» في السوق. لا عنوان لأماكن بيعها، إذ إنّ معظم من يبيعون اللحوم لا يلتزمون بالقانون لناحية الإشارة إلى مصدرها ووضع تواريخ الصلاحية عليها، ما يثير شكوكاً لناحية صلاحيتها للأكل، وفقاً لبرو، «إذ يمكن أن تكون منتهية الصلاحية ولا نعرف بذلك لأن لا معلومات عنها ولا رقابة كافية عليها».
المعروف، شعبياً، أن «اللحام يغش زوجته»، وأن خلط اللحوم ليس أمراً جديداً، ولكنه كان يجري «ع الناعم» قبل أن «يفلت الملقّ» بعد الأزمة ونشهد زيادة ضخمة في استيراد هذه الأنواع من اللحوم. وزاد الأمر سوءاً في الآونة الأخيرة مع استيراد أنواع من اللحوم الهندية كـ«التريمنغ»، وهي «تجميعة لحوم ممزوجة ببعضها في روليات، ولا نعرف ما الذي تحويه هذه التجميعة»، بحسب ماجد عيد، أمين السر لنقابة مستوردي وتجار اللحوم الحية.

منذ 2004
يعود استيراد اللحوم الهندية إلى عام 2004، وترافق مع جدل طويل حول نوعيتها ومدى مطابقتها للمعايير. ووُضعت إثر ذلك لائحة شروط لإدخال الشحنات إلى لبنان، استناداً إلى زيارات ميدانية قام بها أطباء بيطريون مكلّفون من وزارة الزراعة إلى مسالخ في الهند لتحديد المطابق منها وتسجيلها ضمن لائحة المسالخ المسموح بالاستيراد منها. إلّا أنّ هذا التدبير لم يلغِ الحذر لدى البعض، إذ من يضمن ما يجري بعد زيارات الأطباء، وهل ينحصر الاستيراد فعلاً بالمسالخ «المطابقة للمواصفات»؟
مع بداية الأزمة الاقتصادية قبل أربع سنواتٍ، عاد الحديث عن اللحوم الهندية بعد الزيادة الكبيرة في استيراده وعدم الإفصاح عنه في الكثير من المحال والملاحم. ودفع ذلك نقابة القصابين ومستوردي وتجار المواشي الحية إلى «تنبيه المواطنين» ودعوة وزارة الاقتصاد «للقيام بإجراءات استثنائية وزيادة دورياتها الخجولة نسبة لحجم الغش الموجود في السوق، خصوصاً أن اللحوم الهندية باتت تستحوذ على ما بين 25% و35% من حجم سوق اللحوم في لبنان حالياً، من دون أن نعرف مراكز بيعها»، بحسب عيد.

المجمّد الهندي في رأس القائمة
بحسب أرقام إدارة «الجمارك اللبنانية»، حيث يكاد استيراد اللحم المجمّد ينحصر بالهند. ففي الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي، استورد لبنان 44 ألف طنّ «حيوانات حيّة من فصيلة الأبقار» بقيمة إجمالية تبلغ 138 مليوناً و450 ألف دولار. كما استورد 8784 طناً من اللحوم المجمّدة بقيمة 26 مليون دولار و6339 طناً من اللحوم المبرّدة بقيمة 23 مليون دولار، وهي تلك التي تُستخدم في الغالب في المطاعم.
تتنوع المصادر التي يستورد منها لبنان أبقاراً حيّة، ويأتي في مقدمتها البقر البرازيلي (11014 طناً) ثم الأوكراني (8778 طناً) فالكرواتي (7628 طناً) والإسباني (4498 طناً) والهنغاري (3696) والمولدوفي والكولومبي (بحدود 2500 طن لكل منها)...
في المقابل، لا ينعكس التنوع على ما يستورده لبنان من لحومٍ مبرّدة ومجمّدة، إذ يستورد معظم اللحوم المبردة من مصدرين أساسيّين هما البرازيل (3663 طناً) وكولومبيا (1981 طناً). وفي اللحوم المجمّدة، «يتّكل» لبنان على مصدر شبه وحيد هو الهند (7559 طناً من أصل 8784 طناً)، وتتوزع النسبة المتبقية (1219 طناً) بين البرازيل وأستراليا وكولومبيا والأرجنتين ونيوزيلندا. واللافت أن التوجه إلى الهند بهذا الزخم ترافق مع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي أثرت على أسعار اللحوم الطازجة. فما إن «طارت» أسعار اللحوم، حتى لمع نجم الهند كأحد المصادر البديلة. وتشير الأرقام الرسمية إلى تغيّر نمط استهلاك بعد الأزمة، إذ تراجعت شحنات الأبقار الحية، وزادت كمية اللحوم المجمّدة التي يستوردها لبنان، تحديداً من الهند، عاماً بعد آخر، وهي مرشّحة للارتفاع أكثر.
اللحوم الهندية تستحوذ على ما بين 25% و35% من حجم السوق من دون أن تُعرف مراكز بيعها


يعني ذلك أن التجّار ارتأوا أن يُطعموا اللبنانيين لحوماً مجمّدة ومبرّدة «بغير علمهم». وليس في الأمر مبالغة، فاليوم يأكل اللبنانيون من معظم الملاحم والمحال التجارية لحوماً حمراء مجمّدة على أنها طازجة. وهم بذلك يرتكبون مخالفتين، الغش التجاري عبر خلط اللحوم، وإخفاء ذلك عن المستهلك متخطّين قانون حماية المستهلك الذي يفرض على نقاط بيع اللحوم تحديد نوع اللحوم ومصدرها وتاريخ صلاحيتها. والسؤال هنا: من يحمي المستهلك؟
في إجابة رسمية، تتوزع المسؤولية بين عدة جهات، منها الزراعة والاقتصاد والتجارة والصحة. أما على أرض الواقع، فقد لعب تشعّب الصلاحيات دون القيام بالأدوار كما يفترض. إذ تتقاطع صلاحية مراقبة اللحوم والتأكد من جودتها بين جهتين أساسيّتين هما وزارتا الزراعة والاقتصاد. فيما تتدخل وزارة الصحة فقط «في حال حصول إصابات بسبب تناول منتج غذائي ومنه اللحوم»، بحسب رئيسة مصلحة الطب الوقائي في الوزارة الدكتورة عاتكة بري.
تبدأ المهمة، إذاً، من الزراعة التي من مسؤوليتها الكشف عن المستوعبات التي تصل إلى مرفأ بيروت وإجراء الفحوص اللازمة للحوم، مبرّدة أو مجمّدة، «فإن كانت مطابقةً للشروط، أدخلناها إلى السوق، وإن كانت العكس، أتلفناها»، يقول رئيس مصلحة مراقبة التصدير والاستيراد في الوزارة الدكتور يحيى خطار. ولا تتوقف الشروط، بحسب خطار، عند مطابقتها لمعايير السلامة العامة، وإنما يتوجب على تاجر اللحوم أن يلتزم جملة إجراءات عند كل شحنة، ومنها جزء أساسي يتعلق بـ«الأوراق التي تثبت بأن المسلخ الذي يستورد منه اللحوم حاصل على شهادة جودة ومسجّل في لائحة وزارة الزراعة التي نجري عليها تعديلات دورية بناء على زيارات ميدانية يقوم بها فريق الأطباء المكلّف من الوزارة للكشف على المسالخ». استناداً إلى ذلك، يجزم خطار بـ«أننا متأكّدون من صلاحية اللحوم التي تدخل، ومنها الهندية، ومن مطابقتها لشروط السلامة».
لكن هذا التأكيد، بحسب خطار، محصور داخل المرفأ و«حتى بابه» حيث تنتهي صلاحية وزارة الزراعة لتبدأ صلاحية مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد. وعلى «الطريق» الفاصل بين المرفأ وأماكن توزيع اللحوم، تكمن الأزمة. فبحسب برو «المشكلة ليست في مطابقة اللحوم الهندية للمواصفات في المرفأ، وإنما في سلسلة الاستهلاك، أي بعد خروجها من المرفأ، عبر طريقة التخزين والتبريد والالتزام بتواريخ الصلاحية، لأنه في كثير من الأحيان قد تنتهي صلاحيتها وتباع على أساس أنها صالحة، وقد حصل هذا مراراً».
هذا التكتم يجعل من مهمة مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد بعد خروجها من المرفأ أمراً شاقاً، فالحمل ثقيل على مديرية تعمل بـ 70 موظفاً تقريباً مكلّفين بمتابعة مخالفات البلاد كلها، من مخالفات المولدات إلى المطاعم والمطاحن والمحال التجارية والملاحم. مع ذلك، «المطلوب منا نفعله»، يقول المدير العام لوزارة الاقتصاد الدكتور محمد أبو حيدر، لافتاً إلى أن الوزارة تقوم دورياً بجولات للكشف عن المخالفات. وفي هذا السياق، يشير أبو حيدر إلى أن الجولات التي قام بها على الملاحم والمحال التجارية التي تحوي أقساماً لبيع اللحوم، كان لافتاً فيها أمران أساسيان «أولهما عدم إعلام المستهليكن بأن هذه اللحوم مجمّدة وليست طازجة أو أنها لحوم هندية بحيث نعطي الخيار للمستهلك في انتقاء ما يريده وهذا ما ينطبق عليه مصطلح الغش التجاري، وثانيهما وهو الأخطر، هو خلط اللحوم الطازجة باللحوم المجمّدة، وهو ما لا تستطيع حملات المداهمات ولا الفحوص الكشف عنه، إذ يمكن بالفحص أن نثبت أن اللحم المفروم مطابق أو غير مطابق، ولكننا لا نملك وسائل في المختبر تثبت أن هذا اللحم مخلوط». جل ما يمكن أن «نقوم به في هذه الحالة هو طلب الفواتير لنطابق بين الكمية المستوردة والكمية التي تباع، وفي حال المخالفة، نعمد إلى إقفال الملحمة وتحويلها للقضاء»، ولكن هل هذه الوسيلة كافية؟ يجيب أبو حيدر «لا»، وحتى التحويل إلى القضاء دونه عائقان أساسيان يتعلقان بطول مدة «إقامة» الملف قبل صدور القرار «ونحن لا يمكننا السؤال عن الملفات باعتبار أن ذلك يعدّ تدخّلاً في القضاء»، والأمر الآخر يتعلق بعدم وجود عقاب رادع، إذ إنّ الغرامة لا تزال بدائية وقيمتها منخفضة جداً.



قانون حماية المستهلك يدور بين اللجان
لا يزال قانون حماية المستهلك ينتظر التعديلات التي تُدرس في اللجان النيابية وإصدار المراسيم التطبيقية أيضاً. وفي هذا السياق، يشير المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر إلى تكثيف الاجتماعات لتسريع إنجازه، لافتاً إلى أن الوزارة، كمسؤولة عن حماية المستهلك، طالبت بتطبيق 3 معايير لتجعل منه قانوناً حامياً، منها «أن تصبح لدينا ضابطة عدلية تمنحنا صلاحية اتخاذ الإجراء مباشرة وأن ترفع قيمة الغرامات بحيث تصبح رادعة، وأن نُعطى صلاحية الإقفال بالشمع الأحمر». أما الأمر الآخر الأهم، فهو نظام التتبّع الذي يتيح القانون تفعيله، عبر تتبّع اللحوم من المصدر إلى المستهلك «بحيث نعرف من أين تأتي وإلى من تصل وكيف تصل؟»، وفق رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو.
بانتظار أن تُترجم هذه الطلبات، لا قانون يحمي المستهلكين اليوم مع تشتّت الصلاحيات بين أكثر من جهة، والتضارب والتقاطع بينها بما يعيق عملها. وقد أتت الأزمة الاقتصادية لتزيد الطين بلة مع تراجع حملات التفتيش بسبب عجز الإدارات مالياً عن القيام بها واقتصار الأمر على ما هو واجب. ولذلك يتم التعاطي اليوم بـ«الإرشاد»، عبر الطلب مثلاً «من المستهلك أن يطلب من اللحام أن يقطع له من الذبيحة المعلّقة». أي أن يصبح كلّ مواطن خفيراً على نفسه. لكن، ذلك ليس حلّاً، يقول برو، مشيراً إلى أنّ الحل الأمثل هو «بإعادة بناء دولة القانون لا دولة التجار التي تفرض على الملاحم مثلاً بيع نوعٍ محدّد من اللحوم إما طازجاً أو مجمّداً، مع الإشارة في الحالة الأخيرة إلى المصدر وتاريخ الصلاحية».