«متى نحتكم إلى العقل؟» سؤال يطرحه خلف الجراد في «الخرافة ووأد العقلانية»، مستعيداً مرحلة الثمانينيات التي شهدت هجمة ارتدادية على الفكر، تواكبت مع مشاريع التصالح مع إسرائيل. الحلّ؟ ابن رشد جديد يُخلخل المشهد على الساحة الثقافية العربية
خليل صويلح
«فكر تحت الحصار» العبارة التي أطلقها محمد جابر الأنصاري في مساءلة الهزيمة، يستعيدها الدكتور خلف الجراد في «الخرافة ووأد العقلانية» (دار كيوان ـــ دمشق) لتوصيف أحوال الفكر العربي اليوم. وكان الأنصاري قد أشار قبل سنوات إلى ضرورة الخروج من التيه المعرفي الملتبس، ومن «برميل النفط» قبل أن نواجه حصار الآخر. يلفت الجراد إلى أنّ الساحة الثقافية العربية شهدت منذ الثمانينيات «هجمة ارتدادية» على الفكر المستنير والعقلانية، ما جعل الفلسفة والعقل مدعاةً للتشكيك والشبهات والتكفير. وقد واكبت هذه الموجة من الكتابات المضادة للعقلانية في الإسلام، مشاريع التصالح مع إسرائيل. كأنّ المطلوب في هذه الحقبة الظلامية «تحطيم العقل والتفكير العقلاني» بوصفهما رافعة للتقدم الحقيقي وشرطاً أساسياً للنهضة العربية والإسلامية، ما يفتح الباب واسعاً أمام التيه والضياع والخرافة، بقصد إعادة إنتاج الفتن وتأجيج الأحقاد الطائفية والمذهبية.
يوضح الجراد أنّ العقل السياسي العربي ظل محكوماً تاريخياً بثلاثة عناصر هي: القبلية، والغنيمة، والعقيدة، إضافة إلى نسقٍ بنيوي جديد يتمثّل في «طغيان اللاعقلانية والانفعالية في الخطاب السياسي العربي المعاصر». أما كيفية الخلاص من الولاء للقبيلة بالمعنى الضيّق لهذا المصطلح، فيجده في تعزيز المنظومة المدنية وترسيخ قيم المواطنة بدلاً من مفهوم «الرعية»، وتغييب أسلوب الإكراه الذي تمارسه الأنظمة السياسية العربية على مواطنيها، وردم الفجوة المعرفية التي تفصلنا نحن العرب عن البلدان المتقدمة، وهو ما يتطلب التحرر من «سلطة العقل المنغلق» التي يغذيها عقل العشيرة والطائفة والجمود الفكري ودوغمائية الإيديولوجيا من خلال «عقل نقدي اجتهادي تصويبي متجدد» ينسف الأساطير والخرافات والقوالب النمطية التي تمثّل خطراً على المجتمع والدولة الحديثة، وإخضاع هذه الوقائع لسياسة عقلانية تنهض على مجتمع المعلومات والتخطيط الاستراتيجي والديموقراطية، لترميم نقاط الهشاشة في العقل العربي. هذه النقاط التي أفرزتها «الدولة الرخوة» التي تقوم على الفساد والرشوة والولاء للعشيرة أو الطائفة.
«متى نحتكم إلى العقل؟» سؤال آخر يطرحه خلف الجراد، إذ إنّ المتتبع للسجالات الإعلامية والسياسية العربية، سيقع على ضحالة فكرية وخواء ثقافي، يلجأ أصحابه إلى التضخيم والتهويل والمبالغة وملء الفراغات المعرفية بالشتائم وإطلاق الاتهامات على ممثلي الخندق المضاد. هكذا، وقع الخطاب السياسي والإعلامي العربي في خانة ازدراء الآخر وإقصائه. وتزداد المسألة سوءاً حين ينسحب هذا الخطاب على حقل الفكر والثقافة والإبداع، وذلك بتحطيم «الخندق الآخر» وتشويهه وتحميله مآسي الأمة ونكباتها منذ قرون إلى اليوم.
وتزداد المعضلة برفض التجديد والتطوّر عبر منع تداول أفكار الطرف الآخر واعتبارها محظورات تقوم على تلويث الوعي الجماهيري والرأي العام، من دون النظر إلى ثورة الاتصالات التي أسهمت في تدفّق المعلومات، وإلا فما سبب العطالة الفكرية التي نعيشها اليوم؟ يجيب الجراد: «إقصاء الفكر الحرّ والعقلاني، ومحاصرة الفلسفة، والقمع الشامل للتفكير العلمي والتجريبي والنقدي لمصلحة دعم الفكر الغيبي والخرافة بأشكالها العديدة، حفاظاً على سكونية المجتمع وركود الفكر وأبدية السلطة ومغانمها».
ولعل ما نحتاج إليه اليوم للخروج من نفق التخلّف والظلام وفق الجراد، هو مقاومة القداسة المطلقة التي منحناها لفقهاء يحتمون بثقافة الأسلاف وإقصاء أي فكر تنويري في التراث العربي. مجتمع اليوم يحتاج إلى ابن رشد جديد، يميط اللثام عن قضايا سجالية تخلخل ثبات المشهد وظلاميته في ظل فتاوى فضائية تعيد إنتاج ثقافة التخلف والغيبيات.
انتشار ثقافة الخرافة والتنجيم، وثقافة الاستسلام، أسهم في تأصيل نماذج اجتماعية يراها الجراد لا تقل شأناً في خطورتها عن الثقافة السلفية التي تشوّه صورة الإسلام لدى الآخر، بتعويمها سلوكيات تعزّز روح الاستسلام والقدرية، والانقياد وراء مقولات وأمثال نفعية تبرر ثقافة «الفهلوة» والانتصار لثقافة الابتزاز والاحتيال والتشاؤم.
لا يكتفي الباحث السوري في كشف أسباب التخلف في الخطاب العربي الراهن، بل يفحص صورة المثقف الذي ينتج هذا الخطاب، وخصوصاً لدى انخراطه في السلطة. وإذا به يسبح في بحر من النفاق الاجتماعي الذي ينحسر عنه بمجرد فقدانه المنصب. كما يعرّج على غياب ثقافة الاعتراف في شخصية المثقف المعاصر، بادعائه المعرفة وغزارة القراءة ومواكبة ثقافة العصر، ما يُنتج سلوكيات مضطربة وتائهة، تفتقد الصراحة وشجاعة الاعتراف بالخطأ في محصّلة طبيعية لإفرازات مجتمع مبني على الكبت والمحظورات والنفاق، إضافة إلى غياب ثقافة العمل التنويري، وانحسار دور النخب بفضح ثقافة الجهل والتكفير التي طالت أسماء شخصيات ثقافية اضطرت في نهاية المطاف إلى الاختفاء والهروب من بلدانها. ويضرب مثالاً محنة نصر حامد أبو زيد ونوال السعداوي وآخرين، رغم أنّ أصحاب فتاوى التكفير استخدموا الدين استخداماً نفعياً على خلفية إيديولوجيات سياسية لا تركن إلى محاكمة عقلية تضع التأويل في المقام الأول.