بيار أبي صعبسيرين فتّوح مبدعة شابة آتية من عالم الفيديو والتجهيز والفنون المعاصرة، تكتشفها بيروت هذه الأيام من خلال أعمال مختلفة، ومعرض فوتوغرافي بعنوان «الكتابة إليكم». تكتب الفنانة على الصورة التي تتمحور حول جسدها وذاكرتهاتدخل عالم سيرين فتّوح، وأنت لا تعرف إلى أين تقودك الحكاية. هل هي حكاية أصلاً؟ أم نثار ذكريات وانفعالات وانطباعات ورؤى؟ اختبارات ومشاغل بصريّة (وحسيّة) يلوّنها حنين غامض إلى حياة سابقة، ويسكنها قلق لا يسمّى؟ هذه الفنانة اللبنانيّة (١٩٨٠)، تحمل بلا شكّ تركة صعبة وثقيلة، هي التي تعيش بين عالمين (هنا وهناك) وزمنين (الماضي والحاضر). الحيّز الأوّل هو الذي تتحدّر منه، يرتبط بالماضي، بالطفولة، بالعائلة، ببيروت، بالحرب... والثاني هو الذي تنتمي إليه اليوم، ومنه تنطلق لتحقيق أعمال بصريّة تراوح (منذ ٢٠٠٣) بين التجهيز والتشكيل والفيديو والصورة.
تنتج سيرين فتّوح انطلاقاً من باريس، تلك المدينة التي بدأت فيها حياتها الثانية، يوم هربت طفلة مع عائلتها من الحرب الأهليّة، لتجد نفسها داخل ثقافة جديدة ولغة ووعي ونمط وأدوات جماليّة وتقنيّة مختلفة. هناك درست الفنون البصريّة. ومن هناك ترنو باستمرار إلى هذه البقعة من العالم، تبحث عن حياتها الأولى التي تختزن الذكريات والحكايات والأسئلة. وبهذا المعنى، تنتمي الفنانة الشابة التي كبرت بعيداً، إلى جيلها اللبناني. جيل أعلن عن وجوده وهويّته ضمن دائرة الفنون المعاصرة، وباشر مشروعه الاركيولوجي من خلال تلك الأدوات والتقنيات الجديدة.
وسيرين فتّوح في معرضها الحالي «الكتابة إليكم» في «المركز الثقافي الفرنسي» (بيروت)، وفي أعمال مختلفة عرض بعضها قبل أيام في «سينما ميتروبوليس»، تستعيد غالباً أشباح ذلك الماضي: ذكريات وانفعالات وقصصاً وشخصيات. وتجعل من نفسها مادة لفنّها وموضوعاً له. في هذه التجربة تلتقي الصورة والنص. الصورة من الحاضر، والتداعيات من الماضي، أو من قصص مختزنة في الذاكرة هي بين السيرة الذاتيّة والخيال الأدبي. خلال الأشهر الأولى من ٢٠٠٦ التقطت سيرين صوراً، وأرسلتها بطاقات بريدية إلى أشخاص معيّنين في محيطها، كل صورة يرافقها نصّ لا يقترن بها مباشرة بالضرورة. تمثّل الصور محطّات مترابطة، تبعاً لتسلسل كرونولوجي (من ١٣/١ إلى ٨/٤/٢٠٠٦)، بعدما دخل النصّ في صلبها وصار جزءاً من تركيبتها.
٤٥ صورة أو محطّة يتألف منها معرض «الكتابة إليكم». «الكتابة» هي على الصورة وداخلها، لاختبار السرد، ومفهوم المراسلة/ المخاطبة. هناك تراكم تعبيري إذاً، كما نتحدّث عن تراكم جيولوجي: النص الأول بصري. الفنانة هي موديل الجزء الأهم من الصور، في حالات ووضعيات ومع عناصر مختلفة، والباقي مخصص لمنمنمات الجنود التي كنا نلعب بها صغاراً، وهي هنا تقدم إحالة مباشرة وعبثيّة وشاعريّة وطفوليّة إلى الحرب.
والنص الثاني أدبي، تقرأه فترى صوراً ومشاهد. برقيّات تعبر المشهد، من اليمين إلى اليسار، تداعيات من الطفولة وقصص الذاكرة التي تفضي دائماً إلى الزمن الحالي: الحرب والملجأ والمدرسة والجيران والهجرة. الهويّة الضائعة، والقطيعة مع اللغة العربيّة... فجأة تنسل ونصوص أخرى أقرب إلى الراهن، مشاهدات أو ومضات حب وبوح ورغبة مؤجّلة، توحي بأنّها موجّهة إلى شخص محبوب أو مرغوب، مذكّر أو مؤنّث. هذا النص المطبوع على الصورة، غير مرتبط بها كما ذكرنا. لكن علاقة «تجاذب» تنشأ بينهما (attraction بالمعنى الذي استعمله السينمائي الروسي آيزنشتاين)، ينبلج منها معنى ثالث، مدهش وقويّ.
اللقطات التي تتلاعب بالضوء، قائمة على الابتكار والعبث واللهو والنزعة الاستعراضيّة، وهي غالباً من «بطولة» سيرين التي تمسرح نفسها في حالات ووضعيات مختلفة. أو توزّع «جنودها» الصغار soldats de plomb (والمعدات الحربية المصغّرة المصنوعة من الذخيرة)، بين الكتب والمرايا والأشياء المنزليّة الأليفة. اللعبة الغرافيكيّة تجعل النص ستاراً علينا أن نخترقه، نوعاً من بعد ثالث. يستدرجنا الكلام إلى مستوى آخر للنظر، نقيم من حيث لا ندري علاقة حسية مع الصورة التي نريد الغوص في تفاصيلها... فإذا بنا، ونحن نكيّف عضلات العين (في حركة zoom مثل الكاميرا) بهدف قراءة إحدى الجمل المنثورة في الجزء المركزي من الإطار، نلتقي عين سيرين المحدقة فينا، بأذنها أو شفتها أو جيدها أو جلدها... وتفاصيل أخرى من وجهها وجسدها. هي تنظر إلينا، وتعبث، كأنّها تمد لسانها للعالم... لكنّ رسائلها أكثر «جديّة»، تعطي المشهد كثافته الدراميّة.
«توت توت عَ بيروت» في أغنية الطفولة تحوّلت في إدراك سيرين إلى toutes بالفرنسيّة أي «كلهنّ». هكذا تعمل الذاكرة إجمالاً، وهكذا يستحيل سوء تفاهم قديم حول أغنية من الطفولة، إلى ابتكار فني يعيد إنتاج الواقع. معرض سيرين فتّوح قائم على تجربة إدراكيّة، بقدر ما هي تجربة حسيّة: ماذا نرى ونقرأ؟ وكيف نرى ونقرأ؟ كلا، ليس حنيناً إلى زمن آخر، بل حفر في الذاكرة، لوصل الماضي الذي يعيش بين هلالين، بحاضر هادئ ظاهريّاً، ملؤه الحيرة والغموض والأسئلة المعلّقة.

«الكتابة إليكم»، معرض صور حتّى ٣٠ نيسان/ ابريل
«المركز الثقافي الفرنسي» في بيروت، طريق الشام: 01،420000
صور المعرض صدرت في كتاب عن Amers Editions
e-mail: [email protected]


فيديو وتجريب: الحياة «كانت» حلوة حقاً؟
بمبادرة من Amers Editions (دار «منارات» التي تشرف عليها سارة صحناوي)، عرضت قاعة «متروبوليس» قبل أيام، في بيروت، مجموعة من أعمال الفيديو التي تحمل توقيع سيرين فتّوح، وتسلّط الضوء على تجربتها الفنيّة. في «الحياة كانت حلوة» (فيديو، ٢٦ د) تسأل أباها وأخته التوأم، وقد أجلستهما أمام كاميرا ثابتة وداخل كادر ضيّق، عن أيّام زمان... فيستحيل الحوار مشهداً عبثياً جديراً بمسرحيّة ليونيسكو. وتعود في «ليلة في بيروت» (فيديو،٢٠٠٦ ، ٨ د) إلى مسحراتي حارتها، تحاول أن تستعيد ذلك الصوت الذي خيّم على طفولتها وتضع له وجهاً. في «أوقات ميتة» (فيديو، ٢٠٠٥، ١٦ د) تحاول أن تستدرج والدها إلى كشف جراحه في الحرب... فيما تتمرّد على السلطة الأبويّة وتحاول تفكيكها في «لا تقولي لا أبداً» (فيديو، ٢٠٠٦، دقيقتان ونصف دقيقة) إذ تغطس وجهها في صحن الشورباء ثم تلعق المادة اللزجة السارحة بتلذذ مشبوه!
وقد حققت سيرين أكثر من تجهيز ويرفورمانس، أنتجت وقدمت في فرنسا، يجمع بينها انشغال تجريبي دائم بالرؤية والإدراك الحسي، والعلاقة بالصوت، وموقع الجسد من العمل الفنّي. أما فيلمها الطويل «عبور» فتعرضه «أشكال ألوان» ضمن برنامج «أشغال داخليّة» الذي ينطلق الأسبوع المقبل.