strong>ياسين عدنان
لم يكن أحد يتوقع أنّ صحيفتي “الأحداث” و“التجديد” المغربيتين ستتفقان ذلك الصباح على موضوع بعينه. فـ “الأحداث” المنحازة على الدوام إلى قيم الحداثة والتحديث، و“التجديد” الإسلاميةُ الهوى والتوجّه والمقرّبة من حزب العدالة والتنمية (إسلامي معارض)، ما زالتا حتى الآن تتبادلان السجال على خلفية معرض الكتاب الأخير، وهي المعركة التي تابعتها “الأخبار” في حينه.
المؤكد أنّ معارك أخرى قادمة في الطريق، لأن السجالات بين هذين المنبرين لا تنتهي. فالاختلاف جذري ولكلّ أفقه الفكري الخاص. لكن ذلك الصباح، صباح الثلاثاء 27 شباط (فبراير)، اتّفقت الصحيفتان معاً في الموضوع ذاته. كانتا معاً تنعيان جوزف سماحة تقريباً بالكلمات عينها، ومعاً تتحدّثان بإجلال عن الصحافي الذي لم يكن مجرد صحافي. قد يكون الكبار وحدهم يجعلون الفرقاء يترفعون عن اختلافاتهم في لحظة معينة.
أهم الصحف المغربية كتبت صباح الثلاثاء خبراً مُراً بنبض حزين عنوانه “جوزف سماحة”. كان الكلّ يستشعر فداحة الخسارة. خسارة صحافي استثنائي في حجم جوزف سماحة في زمن عزّ فيه من يكتب الرأي بلا رقيب. وكانت صورة جوزف تطلّ من هذه الصحف. لم يكن يبدو غريباً. على رغم أنّ الكثيرين من القراء المغاربة الذين أدمنوا التسلل إلكترونياً باتجاه خطه الأحمر في “الأخبار” لم يكونوا يعرفون صورته. إلا أنّهم وجدوا نظرته أليفة وإطلالته كذلك. قال سعيد: “كنت أتخيله أكبر قليلاً”. وقالت سناء: “لكنّه أكثر وسامة مما كنت أتصوّر”.
هذه طبعاً مجرد تفاصيل، لكنّهم جميعاً أجمعوا على أنَّ صورة جوزف تشبهه. تشبه روحه. تشبه صوته. تشبه قلمه. حتى نظرته الثاقبة من خلف النظارة الطبية تشبه إلى حد كبير “نظرته” الخاصة، الثاقبة هي الأخرى، إلى الشأن السياسي العربي... تلك التي كنّا نتلقّاها على جرعات من خلال مقالاته وتحليلاته، فنفهم أكثر الملفات غموضاً وأكثر الحسابات تعقيداً.
في عدد الثلاثاء من صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي (مشارك في الحكومة)، أطلّ وجه جوزف سماحة من نافذة أعلى الصفحة الأخيرة. وكتبت الجريدة مقالاً مُركّزاً عن هذا الصوت العربي الحرّ: لبناني بلا طائفة، يساري بلا تياسُر، عروبي بلا عصبية، قومي بلا انغلاق، وكاتب بلا رقيب. وأمس أيضاً، كتب طالع سعود الأطلسي في الصفحة الأولى من “الاتحاد الاشتراكي” يرثي جوزف سماحة والصحافة العربية.
صباح الأحد لم يستيقظ جوزف هناك في لندن. صباح الاثنين كنّا جميعاً نقاوم فكرة غيابه في “أخبار” بيروت. صباح الثلاثاء كانت الصحافة المغربية تنعى هذا القلم الصحافي الحرّ. لكن ماذا عن الصباحات المقبلة، كيف سيحضر جوزف بيننا؟ كيف سنحافظ على الطاقة النقدية التي لم يتنازل عنها قط في حياته؟ هذا هو السؤال... كيف نكون نقديّين ومسؤولين ونزهاء في الكتابة والموقف؟ هذا هو درس جوزف سماحة... هذه رسالته الواضحة وغير المشفرة للصحافة العربية... ولهذا رثيناه جميعاً من المحيط إلى الخليج.