strong>حسين بن حمزة
  • الترجمة، أو كيف نتجاوز النظرة الاختزاليّة إلى الآخر؟

    يدين الأدب العربي بالكثير إلى هارتموت فندريش الذي نقل إلى لغة غوته روايات غسان كنفاني وإميل حبيبي... وعلاء الأسواني. خلال زيارة لبيروت، تحدّث صاحب الـ 45 عملاً مترجماً، عن مصاعب الترجمة وإشكاليات التلقّي في الغرب

    ليست المرة الأولى التي يزور فيها هارتمــــــــوت فندريش بيروت. هذا الألمانـي الذي حقّق رقماً قياسيّاً في عدد الكتب التي ترجمها من العربية إلى لغة غـــــــــوته، له العديد من الصداقات الأدبية، هنا في بيروت وفي عواصم عربية أخرى. لقد اعتاد المجيء إلى هنا للقاء الكتّاب، والبحث عن عناوين وإصدارات جديدة مرشّحة للترجمة. هذه المرة منحه وزير الثقافة اللبناني درعـــــــــاً رمــــــــــزياً تقديراً لجهوده المستمرة منذ أكثر من عشـــــــــرين سنة في ترجمة الأدب العربي. ترجم غسان كنفاني، إميل حبيبي، يوسف إدريس، إميلي نصر الله، حنان الشيخ، ابراهيم الكوني، حسن داوود، سحر خليفة... وآخر ترجماته، رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني التي صدرت قبل ثلاثة أسابيع.
    هارتموت فندريش، أستاذ الأدب العربي في جامعة زوريخ، والمشرف على السلسلة العربية في دار “لينوس” السويسرية، بدأ مسيرته المهنية مستشرقاً شاباً يهتم بالدراسات الإسلامية والشرقية، قبل أن ينتقل إلى حقل الترجمة الأدبية، بادئاً بأعمال غسان كنفاني (“رجال في الشمس”، “عائد إلى حيفا”، مختارات قصصية). يقول فندريش: “اخترت كنفاني بسبب السجالات التي كانت تدور في ألمانيا وأوروبا بشأن الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، خصوصاً بعد حصار بيروت 1982، وهو ما دفع بعض الناشرين إلى الاهتمام بالأدب العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً”. ويضيف مستدركاً: “صحيح أن المنطلق كان سياسياً، إلا أنّ حبي للأدب جعلني أتّجه إلى الروايات لا إلى الدراسات السياسية”.
    مجرّد وثيقة؟
    التبرير السياسي الذي يشير إليه فندريش ليس مستغرباً. إذ يبدو أن السياسة غالباً ما تكون العامل الأهم في الانشغال بالآخر، وفهم مكونات صورته. هذا ما جرى بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)2001، حيث شهد الغرب اهتماماً شديداً بالعالمين العربي والإسلامي. لكن فندريش يرى “أنّ الاهتمام الغربي الفوري الذي أعقب هجمات أيلول الإرهابية لم يكن إيجابياً، بل أدى إلى سوء فهم كبير. وبدلاً من سلوك الطرق الثقافية والحياتية الملائمة للتعرف إلى الآخر العربي/ المسلم، تهافت الأوروبيون على شراء نسخ من القرآن، معتقدين أنّ القرآن سيقدم لهم معلومات من هذا النوع. تكمن مشكلة الأوروبيين في أنّ كثيرين منهم يتوهمون أنّ الحياة في المجتمعات الشرقية تجري بصورة مختلفة تماماً عن مجتمعاتهم. للأسف هذا النظرة إلى الشرق ما زالت قائمة”.
    هذه النظرة التي ينتقدها فندريش، تسرّبت إلى عالم الأدب أيضاً. بعض الكتاب العرب يشتكون علانية من أنّ الكثير من رواياتهم تُترجم اليوم بصفتها فئران المختبر التي تجرى عليها التجارب. والقارئ الغربي غالباً ما يتعامل مع أعمالهم كوثيقة قد تقدم له أنماط التفكير السائدة في المجتمعات التي كتبت فيها هذه الأعمال. وهذا يعني أن العمل الأدبي يخضع إلى فحص فكري وحضاري يتفوق، أحياناً، على القراءة العادية والطبيعية. يرى فندريش أن ثمة مبالغة في توصيف الحالة على هذا النحو. ويقول “إنّ الأدب في النهاية يحكي عن مجتمع ما، عن أفكاره وتقاليده وتصرفات الأفراد والشرائح فيه. الأدب ليس وثيقة بالطبع، لكنّه طريقة ما لتقديم المجتمع وتوثيق أفعاله. التعامل مع الأدب العربي بهذه الطريقة لا يمثل سابقة. الأوروبيون يفعلون ذلك مع كل أدب جديد يُنقل إلى لغاتهم. لقد حدث هذا حتى مع أدب أميركا اللاتينية، حين بدأت ترجمة أعمال ماركيز وأستورياس ويوسا... وغيرهم”.
    وحين نلفت نظره إلى أن مشروع “ذاكرة المتوسط” الذي كان هو أحد أعضائه واجه الانتقادات نفسها، يسارع فندريش إلى التوضيح: “سلسلة ذاكرة المتوسط كان هدفها ترجمة نصوص ذاتية، ويوميات لبعض الكتاب العرب من أجل تقديم صورة متكاملة وواقعية للقارئ الأوروبي الذي يحمل، كما قلت، تصورات غريبة ومشوّهة عن المجتمعات العربية. كان هذا الخيار واضحاً ومعلناً منذ البداية”.
    نعود إلى نشاط فندريش في الترجمة وعمله في دار “لينوس” السويسرية: “ليس هناك أحد غيري في هذه الدار: أنا المشرف واللجنة الاستشارية والمترجم. أختار بنفسي الكتب المناسبة للترجمة، وأعتمد في ذلك على زياراتي المتكررة للدول العربية، وعلاقاتي القوية مع الكتاب والنقاد العرب. أتحدث معهم بشأن الإصدارات الجديدة. ثم تأتي الخطوة التالية وهي إقناع دور النشر الألمانية بتبنّي عملية الترجمة”.
    لا تطعم خبزاً
    لكن هل ما زال يجد مصاعب في الترجمة بعد خبرته الطويلة؟ يقول: “غالباً ما أجد صعوبة في نقل ما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية، المأكولات والملابس مثلاً. هناك أشياء غير موجودة في لغتي، وعلي أن أبحث أو أبتكر معادلاً ألمانياً لها. في كل ترجمة نفقد شيئاً ونربح شيئاً. خذ مثلاً كلمة “بيت”، إذا ترجمتها إلى الألمانية تفقد دلالات عدّة من معانيها العربية، هل البيت هو منزل؟ أم شقة؟ أم مبنى؟ أم بيت شعر في قصيدة؟ بالمقابل كلمة Haus بالألمانية لها معانٍ مختلفة. كما أجد مشاكل تتعلق بتعقيدات أسلوبية يلجأ إليها بعض الكتاب العرب، وهذا يؤدي إلى صعوبتين: الأولى في الترجمة، والثانية في تلقي القارئ الألماني لها. أعطي مثالاً رواية “المتشائل” لإميل حبيبي، أو “الزيني بركات” لجمال الغيطاني. كان نقل الأسلوب اللغوي فيهما إلى اللغة الألمانية عمليةً شاقةً بالنسبة إلي. في المقابل، لم أجد أي صعوبة في ترجمة “عمارة يعقوبيان”، فهي رواية مكتوبة بلغة بسيطة، وأعتقد أنّ سبب نجاحها في فرنسا أخيراً هو أسلوبها المباشر، ونظرة الأسواني الجريئة إلى المجتمع المصري. وأنا أرى أنّه أكثر جرأة من نجيب محفوظ في هذا المجال”.
    بعد هذه المسيرة الطويلة، الناجحة والمرهقة، ماذا أعطته الترجمة؟ يجيب هارتموت فندريش متكئاً إلى الروايات الـ 45 التي أنجزها: “رغم كل الصعاب والخيبات، ما زلت أشعر بمتعة في عملي. أعرف من زملاء كثيرين أن ما يبقى هو هذه المتعة التي تدفعك إلى الاستمرار. الترجمة لا تطعم خبزاً. وكما تعرف، لا أعيش من الترجمة، بل من عملي أستاذاً للأدب العربي في جامعة زوريخ. منذ البداية، كان هدفي أن أقدم شيئاً مهماً للقارئ الألماني، وأرجو أن أكون نجحت في ذلك. إذ لطالما اعتقدت أنّ الأهم هو أن نعرف كيف يعبِّر العرب عن أنفسهم. حين كنت طالباً في الجامعة كنا نكتفي بالكتابة عن العالم العربي، ولا نقدم الأصوات العربية مباشرة. وهذا ما أفعله حالياً”.
    أخيراً، لماذا تقتصر ترجمات فندريش على الرواية والنصوص السردية؟ لماذا لا يترجم الشعر؟ يرد بسرعة: “علاقتي بالشعر صعبة في الأساس. بينما أجد متعة كبيرة في قراءة النثر. أنا مقتنع بأنّ عصرنا هو عصر الرواية. الشعر اليوم ليس ديوان العرب، ولم يعد ديوان الألمان حتّى. الرواية هي ديوان العالم”.