strong>بيار أبي صعب
تواصل “دار قنبز” رهانها على الثقافة البصريّة، إذ تطلق هذا المساء كتابين جديدين: “أعتقد أننا سنكون هادئين في الحرب المقبلة” رسوم لينا مرهج، و“قمر” رسوم أريج محمود. وفي مكتبة “لا سيديتيك” نفسها قدّمت زينة أبي راشد رسومها قبل أيام

بعد الحرب الأهليّة برز في لبنان جيل ثقافي يبحث عن لغته، عن ذاته. هذا الجيل هو ابن القطيعة حكماً. يريد أن يتحرّر من أعباء الماضي: أخطاء لم يرتكبها (علماً بأنّه يدفع ثمنها حتّى اليوم)... لغة لا يفهمها، ولا تتسع له... خطاب لم يعد يعبّر عنه. و“اللغة” هنا تشمل مختلف أدوات التعبير الإبداعيّة، كما يختزل “الخطاب” كل النصوص والمراجع والقوانين والأعراف والأيديولوجيات التي تؤطر فضاءه.
جيل ما بعد الحرب، كان عليه أن يشق طريقه بنفسه، خارج أي وصاية مشبوهة. أن يتعلّم كل شيء بمفرده... تماماً مثل الجيل الذي سبقه، إنما في ظروف مختلفة: “إننا أصعب جيل لأصعب مرحلة” كتب محمد العبد الله ذات يوم، في مقدمة مجموعته الشعرية “رسائل الوحشة”. جيل السبعينيات الذي يعود إليه ضمير الجماعة في كلام الشاعر المذكور، اصطدم باللغة، قلب المعادلات الشعرية والأدبية عامة، واخترع قوالب وأطراً جديدة. لكن تلك المنجزات، استهلكتها الحرب، صنّمتها السلطة البديلة، وجرفتها متغيرات الكوكب: السياسية والأخلاقيّة والفكريّة والجماليّة.
أما الذين بلغوا العشرين في تسعينيات القرن الماضي، قبيل انتهاء الحرب أو بعدها، فعندما تلفتوا حولهم لم يجدوا شيئاً “يتمرّدون” عليه ويجددونه، أو بالأحرى لم يجدوا ما يرتضونه ميراثاً. كانوا يقفون فوق خرائط أخرى، بعد أن تغيّر المشهد في زمن وسائط الاتصال المتعدّدة Multimedia. هكذا هجر معظم المبدعين الشباب اللغة المكتوبة إلى اللغات البصريّة، اللغة الأدبية إلى كلام الشارع، الصورة الفوتوغرافيّة إلى المونتاج والتركيب والتقنيات الرقميّة، السينما إلى الفيديو، المسرح إلى “العرض” والاحتفال بالجسد والصورة، اللوحة إلى التجهيز، الجاز والروك إلى التكنو والراب والهيب هوب. صارت الحدود واهية بين أشكال التعبير التقليديّة، فمزج معظم المبدعين الجدد بين تقنيات وأنواع مختلفة... وكان أن ضاع “نقّاد” العهد القديم، وانقطعوا عن الواقع.

  • جيل مستأثر بالسلطة

    هذا هو الجيل الجديد في الثقافة اللبنانية اليوم، يهيم على وجهه فلا يجد صحافة تتلقفه، فضاء يعرضه، شبكة توزّعه (مع بعض الاستثناءات). ذلك أن البنى التحتية ما زالت مقولبة حسب النمط القديم ومقتضياته. ذلك أن الجيل السابق الذي يتحكّم بقواعد اللعبة، ويحدد شرعيّة أو لا شرعيّة ــ فنيّة أو لا فنيّة ــ هذه التجربة أو تلك، ما زال مستأثراً بالسلطةلا يدرك ــ مثل كلّ الديكتاتوريات ــ أن الزمن حوله تغيّر. في ثمانينيات القرن الماضي، أي صفحة ثقافيّة كان من شأنها أن تستقطب عشرات “الشعراء” الشباب، وتملأ أعمدتها بنصوصهم ومحاولاتهم... اليوم الساحة الثقافيّة تزدحم بمبدعين “مفهوميين” conceptuels، بفناني فيديو وتجهيز، بـ “شعراء” يعبّرون عن أنفسهم من خلال اللغة البصريّة. إنّه جيل الاحتجاج الخافت، غير المؤدلج، الذي أعاد إلى السياسة معناها الأخلاقي الأوّل... إليه ينتمي أريج محمود ولينا مرهج، وكل منهما يوقّع كتابه الجديد هذا المساء في مكتبة La CD ــ Thèque في الأشرفيّة. وفي المكان نفسه الذي يدافع عن الثقافة البديلة، أطلقت زينة أبي راشد الثلاثاء الماضي كتابيها “بيروت ــ كاثارسيس” و“38 شارع يوسف سمعاني” (منشورات “كمبوراكيس”).

  • التطهر من الحرب

    أريج محمود ولينا مرهج وزينة أبي راشد يكتبون بالرسوم (عكس المعادلة القبّانية الشهيرة: “الرسم بالكلمات”). الرسم كلغة كاملة، قائمة بذاتها... قد تتقاطع مع الكلمات، إنما تحتفظ بمنطقها الخاص، تتعامل مع العالم حسب قواعد منظورها. بلغة “ساذجة” تحكي لنا أبي راشد في “بيروت ــ كاثارسيس” قصة المدينة، من خلال تجربة فتاة صغيرة في الحرب. ألبوم شرائط مصوّرة مكثّف إذا شئنا، يعود إلى عام 2002، يسجّل العلاقة بالفضاء والحدود والآخر... في ظل حرب اختصرت هنا الى “مؤثراتها” الصوتيّة العالقة في ذاكرة الطفولة. ذاكرة الفنانة البالغة أيضاً، ما زالت تبحث عن وسيلة “تطهّر” (كاثارسيس) بالمعنى الاغريقي للكلمة، من أدران الحرب. وفي ألبومها الثاني “38 شارع يوسف سمعاني”، ذي الشكل الطولي الغريب الذي يُسحب من مظروفه، ويُتصفّح في اتجاهات عدّة، تعيد خلق مناخات الحارة البيروتيّة، من خلال شخصيات مستوحاة من عمارة طفولتها: أنطوانيت حنفيّة، ماريفون سمبوسِك، تيريز مرسبان، وروكسان كبّة، وريمون تليفون... كل ذلك ما زال يفتقر إلى شيء من النضج ربّما... لكن نواة التجربة هنا، لا يمكنها أن تتركك لامبالياً.

  • في المرة المقبلة

    مع أريج محمود ولينا مرهج ننتقل إلى مستوى آخر أكثر احترافاً. فالفنانان الشابان ينتميان إلى مغامرة من نوع خاص. هذه المغامرة تقف وراءها فنّانة كاتبة وفنانة بصريّة على هامش المؤسسة والثقافة السائدة، اسمها ندين توما. أطلقت ندين، قبل أقل من عام، “دار قنبز” التي لا تشبه إلا نفسها. بدأت من الثقافة البصريّة تحديداً، وجمعت حولها طاقات ومواهب شابة، معظمها نسائي، في مجالات الرسم والتصميم الفنّي والموسيقى والغناء. أصدرت حتّى الآن، كتباً للأطفال، مختلفة الأشكال والأحجام، وحملت رسومها تواقيع: أريج محمود (“هل هذه صورة شمسية؟)، ورينا قرانوح («الخربشة»)، ولينا مرهج («أين أصابعي؟»)، وزينة الخليل («بنات الحروف»)، ولانا خيّاط («القمر والوروار»).
    في بيانها التأسيسي عبّرت عائلة «قنبز» عن رغبتها «في رؤية الأطفال والشباب يستمتعون باللغة العربية ويحبّونها». ثم جاءت حرب تموز، وإذا بالإصدارين الجديدين يتوجّهان للقرّاء الكبار. “أعتقد أننا سنكون هادئين في الحرب المقبلة” يتضمّن مجموعة صور متسلسلة، رسمتها لينا مرهج خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان. فيما يروي لنا أريج محمود «قصّة حب صامتة» في ألبوم مميّز بعنوان “قمر”. كل عمل يسلّط الضوء على موهبة خاصة، هي من سمات هذا الجيل المغاير الذي يبحث عن نفسه في وطن آخر، لا يتسع له الواقع في الوقت الحاضر!


    حـــــفــــلة تـــــوقيــــــــع هــــذا المســــــــاء فـــي La CD Thèque الأشرفية، بين السادسة والتاسعة.