دمشق | تلك الليلة، كان علينا أن نعبر حاجز الكونكريت الذي يفصل «شارع 29 أيار» عن «مسرح القباني» في دمشق. كأنّ عرض «ليلي داخلي» قد بدأ منذ هذه اللحظة قبل الخامسة مساءً بقليل. نص ماركيز «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» بعنوانه الجديد يذهب إلى مطارح أخرى، بتوقيع سامر محمد إسماعيل، معدّاً ومخرجاً في مغامرته المسرحية الأولى. نهبط درج المسرح، ونحن نتذكّر الممثلة الراحلة مها الصالح التي سبق أن وقفت على هذه الخشبة برفقة النص الأصلي. هذه المرّة، نحن على موعد مع الممثلة الشابة روبين عيسى في دور «وداد» بخطبة لاذعة من مقام آخر.
مونودراما تضع في حسبانها أطياف الليل الدمشقي الطويل الذي خيّم على الأرواح منذ سنتين. من قلب العتمة، تتسلل أغنية أم كلثوم «اسأل روحك» بصوت المغنيّة الراحلة ربا الجمّال. تتكشّف الخشبة عن امرأة متوترة، تجلس على أريكة، فيما ينهمك زوجها سمير الصوفي (بسام البدر) بشاشة هاتفه الخلوي. سوف نرى «لايكاته» على الشاشة في عمق الخشبة، وهو يدخّن سجائره بصمت، من دون أن يلتفت إلى زوجته، ولو بعبارة واحدة. عاد الزوجان للتو من حفلة عيد زواجهما العاشر، وإذا بصبر الزوجة يطفح دفعة واحدة في «خطبة لاذعة»، أرادتها محاكمة علنيّة لوقائع عشر سنوات من عمرهما المشترك. تكتشف، فجأة، هباء حياتها مع زوج مخادع وقذر وانتهازي. لا نعلم كيف التصقت به كل هذه الصفات السيئة دفعة واحدة، على الأرجح بتأثير هذيان المرأة، وحمّى الهجاء، لتتناوب نبرتها بين تذكارات سعيدة وحميمة وشحيحة طواها الهجران، وحياة راهنة عنوانها التعاسة بحدودها القصوى. ليس ما يقترحه سامر إسماعيل خطاباً نسوياً صرفاً، بقدر ما هو توصيف لخيانة تتعدى سرير الزوجية إلى خيانة المبادئ. المبادئ المثالية التي كانت هي السبب بتعلّق وداد برجل استثنائي، أحبته بعنف، وهجرت أهلها من أجله. خلطة عجائبية لشخص يشبه لاعبي الأكروبات، في محاولته تسلّق الحبال كلها، متجاهلاً سقوطه الأخلاقي المدوّي، فهو رجل أعمال فاسد، ويساري سابق على خلفية بورجوازية، ومعارض امتطى الموجة، يسعى من دون هوادة إلى قطف تفاح السلطة، وعسل المعارضة المؤجل. لن توفّر وداد شتيمةً في حق رجلها «الفايسبوكي» الجالس، طوال مدة العرض، فتخلع أقنعته، قناعاً تلو الآخر، وإذا بنا حيال فضائح بالجملة لرجل مشوّه، روحيّاً وإيديولوجياً، لا يتوانى عن صناعة القبح وتزينيه بشعارات جوفاء. الرجل الذي بدأ حياته محاضراً في مدرجات الجامعة، لفت الجامعية الشابة بأقوال مقتبسة من تشومسكي وبودريار، وفوكوياما، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش، لكنه في واحد من تقلّباته الليبرالية، سيتحوّل رجل أعمال متوحشاً «يطحن البقر والبشر» في مصنع المرتديلا الوطنية، قبل أن ينتهي سندباداً إعلامياً يتجوّل بين المحطات الفضائية، فهو «يخلع الجاكيت في «العربية»، ويرتدي العباءة في «الجزيرة»، ويحمل برج إيفل على كتفيه في «فرانس 24». خلطة سورية بامتياز أفرزتها المحنة التي تعيشها البلاد بين قوسي «الثورة» و«المؤامرة». على الضفة الأخرى، سنجد امرأة معذّبة ومقهورة ومستوحشة، ما أورثها كآبة كادت تقودها إلى الانتحار، وقد خرّب هذا الرجل حياتها وروحها وجسدها، بعدما أودع ابنهما الوحيد في مركز للمعاقين (هل علينا أن نفحص الإعاقة الذهنية للعائلة بأكملها؟). ذلك أنّ صورة الأب المحتضر، هي النسخة الأصلية للوريث. هكذا تتحوّل الأريكة الرمادية الباردة إلى ما يشبه محفّة للموتى، أو مقصلة يتدلى منها عنق الزوجة، وستعترف وداد في لحظات احتضارها الأخيرة بأنّها انزلقت هي الأخرى إلى علاقة آثمة مع صديق زوجها، لتتعرف إلى طعم الخيانة المضادة، بعدما فقدت القدرة على التحمّل. شرخ عميق راكمه الصمت، لن يرممه صوت داليدا في أغنية عن الحب الموؤود، ولا ألبوم صور يسجّل اللحظات الهاربة في حياة عاشقين، فما كان من الزوجة إلا أن حسمت قرارها بالهروب من هذه الجحيم. ينتسب «ليلي داخلي» إلى الواقعية الفجّة في إعادة بناء مشهديات المؤسسة الزوجية، بوصفها المربع الأول لشروخ مجتمع غارق في النفاق، والعراء الروحي، والاستلاب. من جهتها، بذلت روبين عيسى في ظهورها الأول على الخشبة جهداً استثنائياً في تجسيد الحمولة الثقيلة لنص مغرق في الهجاء السياسي لرجل فاسد، من جهة، واختبار شهوات الجسد ورغباته من جهة ثانية. شخصية مركّبة، تعيش حيرة مزدوجة، تراوح بين الغيرة والانتقام، أو الإقامة في الألم، والتطهّر من حطام علاقة باتت على حافة الهاوية، أو أنها دخلت حقاً في نفق العتمة، لينتهي العرض بمرثية بصرية، أنجزها طارق مصطفى على خلفية أغنية سناء موسى «يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي...»
«ليلي داخلي»: ابتداءً من 10 آذار (مارس ــ س:5:00 مساءً) ــ «مسرح القباني» (دمشق) ــ للاستعلام:0963112318019
فوضى الحواس
يعمل سامر محمد إسماعيل (1977) على مشاريع بالجملة. عدا اقتحامه ساحة الإخراج المسرحي في «ليلي داخلي»، ساهم مع المخرج محمد ملص في كتابة سيناريو فيلم «سينما الجحيم» الذي انتهت عملياته الفنية، ومن المتوقّع عرضه في «مهرجان كان» المقبل، كما كتب سيناريو فيلم روائي قصير بعنوان «توتّر عالي» مع المخرج المهند كلثوم، وسيناريو فيلم روائي طويل بعنوان «ماورد» عن قصة لمحمود عبد الواحد، وإخراج باسل الخطيب. لا يكتفي سامر إسماعيل بالكتابة للسينما والمسرح وعنهما في الصحافة، فهو يعدّ الشعر شغفه الأول. مجموعته «متسوّل الضوء» كانت واحدة من المجموعات الفائزة في مسابقة «دمشق عاصمة الثقافة العربية» (2008)، وها هو يضع اللمسات الأخيرة على «أطلس لأسمائك الحسنى». نصوص متفلتة من التجنيس، تختزن في تدفقها، كثافة الصورة الشعرية، واليوميات، والسرد، في مقاربة تضاريس خريطة في مهبّ الفقدان والفوضى ورعشة الحواس.
3 تعليق
التعليقات
-
ما هذه المهنية يا زملاءعندماما هذه المهنية يا زملاءعندما يكون خليل صويلح دراماتورج العمل ويكتب عنه؟ ألم يتيق سوى خليل ليكتب عن عمله الخاص؟ ألا يكفي مهزلة دمشق عاصمة الثقافةالعربية؟ بيكفي ولو !!
-
شكر للفناانيين وأملنا بكم أن تكونوا قوة دفع للحب وللخير لبلادنابرافو أنتم كنتم بخير وستعودوا وتبدعوا وما تفعلونه حتى بأميريكا يعتبرونه قمة الإبداع رغم الفارق الكبير بالظروف نرجوكم بسوريا لا تجلدوا أنفسكم فأنتم أكثر مما تتوقعون فليس هناك مكان مثالي ومؤلم أن تبقوا بفكر كثرة الإنتقاد من الأغتراب نتمنى منكم فكر القناعة بما تصلون من أهداف لأنكم تبدعون والطلب الأخر أن تتغلبوا على عقلية الدخلاء بحضارتنا الإنسانية اللتي علمت البشرية المحبة والقيم الدينية وهذا الموروث الحضاري الراقي موجود عند فنانين مثل الفنان سليم كلاس والفنانة القديرة جورجيت وغيرهم ونتمنى أن نرى حق الموهوبين بدل أشخاص صاروا بالفن من شعوب دخيلة على حضارتنا الإنسانيةأفسدوا لأنهم من موروث الأعراب غيروا مظهرهم لكن يمارسون عقلية عقلية البداوة الوساطة ( منا - وغريب )ويسممونها شللية بالفن وبكل شيئ بالإغتراب نحب مسلسلات لسوريون مبدعين بالإخراج والصورة والموسيقى التصويرية وغيروا الستاندرد للمسلسلات العربية واللبنانيون أبدعوا بالأغنية والإخراج للسيدة لبكي نحن كمغتربون من سوريا ولبنان نتمنى من فنانينا أن تخففوا من نقد لا يبني وأقترحوا الحلول ليناقشها الناس بدل من شحن الغضب بالناس وإستفيدوا من شغلة من تركيا كيف أحب الناس رومانسية المسلسلات فالحب أهم حاجة إنسانية وممكن طرح شغلة بكل مسلسل لأنكم بالحب تبنون لإيجابية بالإنسان كما يقولوا بأميريكا يرى الإنسان العنف يخرب وبالعكس الحب يعلم المحبة بدل عصبيات ونتمنى دور الفن أن يزرع الروح الإيجابية بالإنسان لينهض ويفعل شيئ إيجابي تقترحونه ويناقشه فكونوا قوة دفع للحب وللخير لبلادنا