لنضع جانباً تقييم الجمهور. هذا النوع من الأفلام ليس للعامة. ليس في هذا الوصف استهتار بالناس وأذواقهم ولا نخبوية معينة، غير أنّ من يريد أن يشاهد عملاً تجارياً ما، فهو في الغالب لا يريد أن يدخل في نفسية المخرج ونزعاته السادية، وخياراته الغريبة عن أيٍّ من العروض التي تغزو صالاتنا. أفلام كـ«وحده الله يَغفر» الذي يعرض حالياً في الصالات اللبنانية، هي مخصصة لجمهور لا يبحث في السينما عن التسلية المجردة بل لجمهور يود أن يلاحق فانتازيا مخرجين مجانين من أمثال نيكولاس ويندينغ ريفن.
عندما عرض المخرج الدانمركي شريطه الجديد «وحده الله يغفر» في «مهرجان كان السينمائي الدولي»، انقسم النقاد بين معجب وكاره. لكن ذلك لم يمنع العمل من الترشح للجائزة المهرجان الأرفع. في الشريط خيارات إخراجية انتحارية بدءاً من التعتيم المطلق الذي يسيطر على المشاهد، فالإضاءة الخافتة تنسحب على ثلثي الشريط على الأقل، وهي مشاهد ليلية بمعظمها، ما يضع الجمهور في إطار درامي أسود ويساعد على جذب المشاهدين الى الأبعاد الداخلية للشخصيات، بتناقضاتها كافة. كل شخصية شُغلت باحتراف تام، رسم لها المخرج معالم صارمة وشكّل عقدها النفسية بإتقان. لكل شخصية أزمتها، ولكل عقدة سبب متأصل فيها. ما فعله ريفن عبر حبك تلك العقد وإخراج الشخصيات على هذا النحو، هو عمل جبار حقاً لا سيما أن تلك العقد لا تظهر الا مع اقتراب نهاية الشريط، حيث تنجلي النتائج متى تعرف الأسباب.
يبدأ الفيلم مع جوليان (راين غوسلينغ) الذي ينتمي الى عائلة تعمل في تجارة المخدرات في تايلنده. يتورط أخوه بيلي (توم بورك) في جريمة قتل واغتصاب ليقع في يد الضابط في الشرطة التايلندية تشانغ (فيثيا بانسرينغرام) ويلقب بإله القتل، إذ يتصرف كحاكم مطلق ويقتل بسيفه كل من يراه مخطئاً، لتبدأ عملية القتل والقتل المضاد قبل أن تعود كريستال والدة جوليان (كريستين سكوت توماس) طالبة الانتقام، لندخل في جولة جديدة من القتل والجريمة.
ومع عودة كريستال، تبدأ العقد بالتحلل، وتظهر العلاقة غير المتوازنة بين جوليان ووالدته وتأثيرها عليه لا سيما أنّها كانت تفضل شقيقه عليه، مما يجعله ضعيف الشخصية ومتردداً حتى في علاقته مع صديقته ماي (راثا فونغام) التي تكون شاهدة وضحية في كل الجنون الذي يحصل. جنون ليست أقله السادية المطلقة في العمل، لا سيما مع المشاهد البطيئة للشريط حيث يتفنن تشانغ في القتل، ويتلذذ المخرج في التركيز على مشاهد الذبح وقطع الأيادي والتعامل معها على أنها مشاهد فنية عادية، لا سيما أنّه جعل تشانغ يغنّي ويُنشد على جثث ضحاياه (مشهد مسرحي غنائي متكامل).
وإذا كانت كمية العنف هذه ليست غريبة على ريفن الذي شبّع شريطه السابق «درايف» بمشاهد العنف والقتل نفسها، إلا أنّه يبدو في العمل الجديد يتلذذ بهذه المشاهد، مما دفعه الى القول في إحدى المقابلات إن «الفن بحد ذاته فعل عنف»، معتبراً أنّ الولادة البشرية نفسها تدعو الى العنف، ما يعتبر أمراً غريزياً طبيعياً يمكن التعبير عنه من خلال الفن.
بالإضافة الى كل هذا الدم، ثمة تحرر كبير في العمل. تحرر من الواقع يظهره ريفن من خلال المشاهد المتكررة التي ترسم الواقع نفسه بسيناريوهات عدة، وتحرر تتوق شخصيات العمل إليه بدءاً من ماي التي تود الانعتاق من جوليان، وصولاً إلى جوليان الذي يود التحرر من سطوة والدته، وتشانغ نفسه الذي نراه يهرب من عائلته ليحقق نفسه في القتل. أما التحرر الأكبر فهو للمخرج نفسه الذي ضرب الحائط بكل الأسس بخياراته، فانحاز إلى كادرات سينماتوغرافية مكررة، وديكور معلب في أطر متشابهة، فضلاً عن التحرر من السيناريو الطويل. في العمل، لا أحد يقول غير الضروري، حتى أن النص لا يكاد يتعدى الصفحتين، تاركاً للصمت وللمشاهد البطيئة أن تتولى التأثير النفسي على المشاهدين، مما يزيد العمل غرابة وإبداعاً في الوقت عينه، بالإضافة الى بعض الفانتازم الجنسي الذي صوره المخرج في مشاهد حذفها الرقيب اللبناني بمعظمها وكان من شأنها أن تظهر أكثر التوازن بين ثنائية السادية والفانتازم المتلازمة في الغريزة البشرية وفق ريفن.
«وحده الله يَغفر» عمل قد لا يعجب كثيرين لا سيما الذين لا يفضلون الأعمال الدموية والبطيئة، لكنه بالتأكيد من الأفلام التي تعلق طويلاً في الذاكرة، مثل معظم أعمال ريفن نفسه.
Only God Forgives: «غراند كونكورد» (01/343143)، «أمبير» (1269)
2 تعليق
التعليقات
-
وحده الله يغفر، لكن ابتذال العنف لا يغتفركم كان مثيراً للدهشة أن يكون مقال بحجم نصف صفحة أمتع وأجمل من فيلم كامل، نعم .. فمقال الأستاذ فريد قمر _والذي أعتقد أنه شاهد الفيلم من هناك_ فاق ما كتب عنه في كل شيء، لدرجة تثير الدهشة، وليس هذا فقط ، بل تدعو للاستغراب . لن أدخل في مسألة أخذ ورد مع هذه المقالة الجميلة، لأنها أجمل وأبعد في موضوعها من موضوع هذا الفيلم، والذي إن أردت أن أوجز رأياً به؛ فسأقول بأنه وقع في هاوية أكثر ما يدعي بعداً عنه، التجارية والسطحية . نعم، فهذا الفيلم -من حيث شاهدته- يتاجر بالعنف، وبالموضوعة النفسية، لدرجة تحس بأن سيف الساموراي وفرويد معاً معروضان على بسطة بضاعة صينية مقلدة على جسر الرئيس في دمشق. للأسف، يظن بعض المخرجين أن مجرد دمج العنف والجنس والإيحاء ببعض العقد النفسية ، وإبطاء الإيقاع ، وتعتيم الإضاءة قد ينتج عنه فيلم غامض ومشوق يحصد ومن دون هوادة الجوائز والثناءات. لا أطن هذا وأعتقد أن (الله) إن غفر عن هذا الفيلم ، فإن تاريخ السينما لن يفعل. يامن خضور