يدور الاقتصاد المصري في حلقة مُفرغة، تبدأ بالاقتراض لتنتهي به، مروراً بتنفيذ حُزم من التعديلات الجوهرية على طبيعة النشاط الاقتصادي للدولة. ففي حين يعاني المواطن المصري من البطالة والفقر - الآخذين في الازدياد -، تتمادى الحكومة في سياساتها، وهو ما أظهره مشروع موازنة العام المالي الجديد (2025/2024)، الذي اقترحته في شهر نيسان/ أبريل الماضي، مُلقية دروس نصف قرن من الأزمة الهيكلية للاقتصاد المصري وراء ظهرها، رغم أن البيانات الرسمية لأهم موارد الاقتصاد تبيّن ملامح تبعات الأزمة المتمثلة في شُح الموارد الرئيسة، وتوضح، إجمالاً، أن ثمة أزمة هيكلية - قوامها عجزٌ في الإنتاج -، من شأنها أن تحدّد المسار في العقدين التاليين.
تضاؤل العائدات
تعاني المصادر الأساسية للاقتصاد المصري من تضاؤل عائداتها، وفقاً لبيانات «البنك المركزي المصري»، و«الهيئة العامة للاستثمار» و«المناطق الحرة»، ووزارة الهجرة وشؤون المصريين في الخارج. إذ تراجعت عائدات قناة السويس والسياحة، وانخفضت إيرادات الصادرات النفطية وتحويلات المصريين في الخارج، في حين يميل الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الثبات. وفي الواقع، تركت الحرب الروسية - الأوكرانية آثاراً بالغة على الاقتصاد، ثم جاءت الحرب على غزة لتخفّض جزءاً من الإيرادات في ما يتعلق بقناة السويس والسياحة، إلى جانب زيادة التوتر والقلق من احتمالية الحاجة إلى التدخل العسكري، ولكن العوامل الأساسية تظلّ داخلية في الأصل، وليست خارجية. وبالأرقام، يمكن إيراد الآتي:

- قناة السويس
سجّلت إيرادات قناة السويس في العام المالي 2017/2016 نحو 4.9 مليارات دولار، مقارنة بـ5.7 مليارات دولار في العامين الماليين التاليين، ونحو 5.8 مليارات دولار في عام 2020/2019، و5.9 مليارات دولار في 2021/2020، و7 مليارات دولار في 2022/2021، و9.4 مليارات دولار في 2023/2022، على التوالي، لكنها سرعان ما هبطت إلى نحو 50% من قيمتها في الربع الأول من العام المالي الجاري نتيجة الحصار اليمني للكيان الصهيوني في البحر الأحمر.

- إيرادات السياحة
بلغت إيرادات السياحة في العام المالي 2017/2016 نحو 4.4 مليارات دولار، مقارنة بنحو 9.8 مليارات دولار في 2018/2017، ونحو 12.6 مليار دولار في 2019/2018، لتنخفض في 2020/2019 إلى نحو 9.9 مليارات دولار، وتعاود الانخفاض إلى نحو 4.9 مليارات دولار في 2021/2020، ثم ترتفع إلى نحو 10.7 مليارات دولار في 2022/2021، ولتبلغ في عام 2023/2022 نحو 13.6 مليار دولار، مع توقعات بانخفاضها في النصف الأول من العام المالي الجاري نتيجة الحرب على غزة.

- صادرات وإيرادات النفط
انخفضت صادرات مصر النفطية، بدورها، إلى 1.61 مليار دولار، في الربع الأخير من العام المالي 2022/2021، مقابل 4.91 مليارات في الربع الأخير من 2023/2022. أما الواردات النفطية، فارتفعت إلى 3.38 مليارات دولار في الربع الأخير من 2022/2021، مقابل 3 مليارات دولار في الربع الأخير من 2023/2022. ويأتي ذلك وسط توقعات بمزيد من الانخفاض في الصادرات والارتفاع في الواردات، في النصف الأول من العام المالي الجاري، نتيجة تراجع إنتاج «حقل ظهر» وتراجع صادرات الغاز الطبيعي.

- تحويلات المصريين
كذلك، سجّلت تحويلات المصريين في الخارج، في العام المالي 2017/2016، نحو 21.8 مليار دولار، مقارنة بـ 26.4 مليار دولار في 2018/2017، وهبطت في 2019/2018 إلى نحو 25.2 مليار دولار، بينما بلغت في 2020/2019 نحو 27.75 مليار دولار، و31.4 مليار دولار في 2021/2020، و31.9 مليار دولار في 2022/2021. ولكنها تراجعت إلى نحو 22.1 مليار دولار في 2023/2022، وبلغت نحو 9.4 مليارات دولار في النصف الأول من العام المالي الجاري نتيجة انخفاض الرواتب وزيادة التضخم وأولويات الإنفاق إلى جانب نشاط السوق السوداء.

- الاستثمار الأجنبي المباشر
أما صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، فبلغ نحو 7.9 مليارات دولار في العام المالي 2017/2016، مقارنة بنحو 7.7 مليارات دولار في 2018/2017. وازداد في 2019/2018 إلى نحو 8.2 مليارات دولار، ليهبط إلى 7.5 مليارات دولار في 2020/2019، ويهبط مرة أخرى في 2021/2020 إلى نحو 5.2 مليارات دولار. ثم ارتفع إلى نحو 8.9 مليارات دولار في 2022/2021، ليرتفع مجدداً في 2023/2022 إلى نحو 9.8 مليارات دولار، مع توقعات بزيادة الاستثمارات في النصف الأول من العام المالي الجاري نتيجة عدة صفقات أبرزها صفقة «رأس الحكمة».
تعاني المصادر الأساسية للاقتصاد المصري من تضاؤل عائداتها


الاقتراض ثم الاقتراض
ينحصر أداء الحكومات المتعاقبة، منذ عام 2014، في التوسُّع في الاقتراض وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، والتخارج بنسب متفاوتة من قطاعات عديدة، استمراراً لتنفيذ روشتة «الإصلاح» الاقتصادي التي يمليها «صندوق النقد الدولي»، الذي أفضى بالحكومة إلى أن تقترض مجدداً لتسدد أقساط الديون المتراكمة وفوائدها. وفي هذا السياق، توضح بيانات «البنك المركزي المصري» ارتفاع الدين الخارجي لمصر، في الربع الأخير من عام 2023، إلى 168 مليار دولار، مقارنة بـ164.7 مليار دولار في نهاية حزيران/ يونيو 2023، و123.5 مليار دولار في نهاية الشهر نفسه من عام 2020، و79 مليار دولار في نهاية حزيران 2017، و46.1 مليار دولار في نهاية حزيران 2014.
ووفقاً لـ«موارد» الموازنة العامة الجديدة، تخطط الحكومة لاقتراض 2.85 تريليون جنيه في العام المالي الجديد لتلبية التزاماتها، مقارنة بـ2.14 تريليون جنيه في العام المالي الجاري، ليُشكّل الاقتراض 51.4% من موارد الموازنة الجديدة، مقارنة بـ49.2% في العام المالي الجاري، علماً أن الاقتراض يشكّل الرقم الأعلى للإيرادات، وتليه الضرائب بنسبة 36.5%، مقارنة بـ35.2%، والإيرادات الأخرى بنسبة 10.8% مقارنة بـ14%، والمتحصلات من الإقراض ومبيعات الأصول بنسبة 1.2%، مقارنة بـ1.5% في العام الجاري، إضافة إلى المنح بنسبة 0.1% تقريباً في العامين الماليين، الجاري والجديد. أيضاً، سيبلغ إجمالي «استخدامات» الموازنة العامة، وفقاً لمشروع موازنة العام المالي الجديد، 5.54 تريليونات جنيه، سيُخصّص 3.4 تريليونات جنيه منها لتسديد أقساط وفوائد القروض، التي ستشكل، بدورها، 62.1% من إجمالي «الاستخدامات»، مقارنة بـ56% في العام المالي الجاري.

الدعم الاجتماعي يتقهقر
يتباطأ النشاط الاقتصادي عموماً، في حين أن الزيادة في المصروفات وحزم الحماية الاجتماعية ودعم القطاعات الإنتاجية والتصديرية لا تواكب التضخم المتزايد وارتفاع الأسعار في سوق ذي رقابة ضعيفة، إذ ارتفع معدل التضخم السنوي في المدن المصرية، في شباط/ فبراير الماضي، إلى 35.7%، مقابل 33.9% في كانون الثاني/ يناير 2023، و5% في الشهر نفسه من 2020، و29.5% في كانون الثاني 2017، و10.1% في يناير 2014، وفقاً لبيانات «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء». وستشكّل نسبة الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، وفقاً لمشروع موازنة العام المالي الجديد، 11.5% مقارنة بـ12.2% في العام الجاري، وستبلُغ الأجور 10.4% مقارنة بـ10.8%، والاستثمارات 8.9% مقارنة بـ13.5%، وشراء السلع والخدمات 3% مقارنة بـ3.2%، والمصروفات الأخرى 2.9% مقارنة بـ3.3%، مع تخصيص 1.2% لحيازة الأصول المالية، مقارنة بـ1% في العام الجاري.
وفيما تقدّر الحكومة مخصصات الصحة بـ200 مليار جنيه (1.17% من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع)، مقارنة بـ147.9 مليار جنيه في العام المالي الجاري، ومخصصات التعليم بـ294.6 مليار جنيه (1.72% من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع)، مقارنة بـ229.9 مليار جنيه، فهي تخالف، على غرار العام المالي الجاري، الدستور المصري الذي ينصّ على تخصيص 3% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق على الصحة (المادة 18)، و6% للإنفاق على التعليم (المادة 19 و21). ومن المتوقّع، وفقاً للموازنة المقترحة، أن يبلغ إجمالي الناتج المحلي 17 تريليون جنيه، مقارنة بـ13 تريليوناً في العام المالي الجاري. أما سقف إجمالي دين الموازنة العامة للدولة، في العام المالي الجديد، فحدّدته الحكومة بواقع 16.4 تريليون جنيه (أي 96.4% من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع)، وقدّرت العجز في الموازنة العامة للدولة فيه بواقع 1.2 تريليون جنيه (7.3% من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع)، وذلك نتيجة الارتفاع المتوقّع لـ«المصروفات» في العام الجديد، مقارنة بـ555 مليار جنيه (4% من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع)، في نهاية العام المالي الجاري.
أيضاً، قدّرت الحكومة سعر الدولار في العام المالي الجديد بنحو 45 جنيهاً، مقارنة بـ48 جنيهاً اليوم. ووفقاً لبيانات البنك المركزي المصري، بلغ سعر الدولار في نهاية عام 2013 نحو 6.95 جنيهات تقريباً، وارتفع في عام 2016 إلى 19.9 جنيهاً، ليتراجع في نهاية عام 2020 إلى 15.7 جنيهاً، ثم ارتفع إلى 30.9 جنيهاً في عام 2023، وارتفع أخيراً إلى 49 جنيهاً في الربع الأول من العام الجاري، علماً أن الحكومة بدأت في تحرير سعر صرف الجنيه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وأن الحرب الروسية الأوكرانية أدّت إلى تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار منذ آذار 2022، إضافة إلى ارتفاع جميع أسعار السلع والخدمات.

خلاصة
في النتيجة، تتلخّص أزمة مصر الاقتصادية في الافتقار التدريجي إلى القدرة على تجديد الإنتاج الذاتيّ، إلى جانب تعزيز بنية التخلّف والتبعيّة بالإصرار على استكمال مسار ما سمي بـ«الانفتاح الاقتصادي» عام 1974، و«التكيّف الهيكلي» عام 1991، وصولاً إلى «الإصلاح الاقتصادي» عام 2016، في تجاهل صارخ لنتائج الانفتاح والتكيُّف الكارثية على الاقتصاد المصري وقطاعاته الإنتاجية. وعليه، فالمسار الحالي مسدود، كونه محكوماً بعجز الموازنة وزيادة الديون وتراكم فوائدها إلى جانب الحاجة إلى النقد الأجنبي، إنه أشبه بحلقة مُفرغة، لكنها تؤول إلى الأسوأ بعد كل دورة. وفيما يتراءى للبعض أن علم الاقتصاد لا يستطيع حتى اليوم حلّ هذه المعضلة، يقول الاقتصادي المصري الراحل محمد دويدار، إن الإنتاج هو محور الأزمة وجزء من حلُّها، في حين تشكِّل الإرادة السياسية الوطنية والشعبية - غير المتوافرة - الجزء الآخر من الحل.