بلمسةٍ تطاول شاشة الموبايل الذي يُتيح عرض فيديوهات قصيرة متاحة على فايسبوك، تدخل إلى فضاءٍ عارمٍ مليء بالتوجيهات والنصائح الإرشادية التي يمكنها أن تدير حياتك. يخبرك أحدهم، معرّفاً بنفسه أنه «رجل أعمال»، عن أشياء بديهية، يضفي بعض المفردات الإنكليزية أثناء تكلّمه بالعربية، وهو، أي المتحدث نفسه، لا يعتبر نفسه إنساناً ناجحاً فقط، بل يقدّم ذاته على أنه «أقفل» عدّاد النجاح، وآن الأوان لأن يجلس ويوجه الجماهير، ويساعدهم عبر نصائحه. هنا يصبح الكلام حول السعي وتشييء حياتنا بالجُملة لبلوغ الارتقاء المادي، قاعدة جامعة علينا اتّباعها، وإن لم ترق لك رؤية هذا المُتحدث، فستجد أحداً آخر، يمتاز بالخليط اللغوي الساذج ذاته، ويمتاز بجودة الحديث «الحماسي» والخطاب التحفيزي الذي يدور حول العمل، والحركة، والجري نحو لقمة العيش ذاتها. الآن لا ينقصنا إلا وجه جديد يخبرنا عن آلياتٍ ساهمت بالربح حققها خلال ساعات النوم.

إن هذا العدو الإنتاجي اللاهث، لا يملك ندّاً أكثر خطورة من الكسل. فالشخص الكسول حالياً هو شخص منبوذ، لأنه خارج عن دائرة الإنتاج، فهو غير مصاب بحمى الإيقاع السريع، إذ إن اللحظة الراهنة تتسابق مع نفسها، بينما الحياة والوجود ضمن جماعة مقرونين بالدخول ضمن هذه الدائرة. عليك أن تعمل كثيراً. عليك أن تمتلك هوايات تناسب التغيّرات القيمية للموضة وتظفر بها. عليك أن تتابع سوق الهواتف الذكية الحديثة. عليك أن تبحث عن حبيبة. عليك أن تُشارك بآرائك على منصّات التواصل الاجتماعي. ثم عليك أن تنام أقل. أن تعمل أكثر. أن تفضّل الوحدة باعتبارها قيمة مُعاصرة، ذلك لكي تمارس المزيد من العمل ولكي تحقق الإنتاجية اللازمة.
للأديب الألماني هيرمان هسّه رأي مُختلف. ففي مقالته «فن الكسل» يشير هسّه إلى التباين بين المفهوم القديم للكسل وصورة الكسل الحديثة. فالكسل كما هو متعارف عليه حالياً قد نتج عن نظُم تعليمية، عن حشو وتراكم نظري ساهم في قتل الحُريّة الشخصية ما منع حضورها. بالإضافة أيضاً إلى أن المنع الذي مارسته الجماعة للانصياع إلى حالات «طفولية»، تلك التي تُمثّل «بدائية» ما، ساعدت في القضاء على قيمة الكسل ودفعت به إلى أتون العصر الحديث وحوكمته.
كتب هسّه هذا المقال في مطلع القرن العشرين، وحينها لم يكن قد نشأ تماماً ما يمكننا تسميته بأدب عربي حديث، كمنتج أدبي معاصر ينفصل عن جماليات الحنين الآمنة. يُعيد هسّه الصورة الأولية للكسل بُبعدها الحميم إلى الآثار الشرقية. ففي ألف ليلة وليلة، ثمّة تأثر بروح الخمول، لكن الخامل هنا ليس متقاعساً أو هارباً من واقعه، بل يمتاز برونق الإتكاء، ذلك حتى نستمع إلى حكاية لذيذة ومُثيرة. فقد كانت شهرزاد تحكي لكي تدفع عن نفسها القتل.
ورغم سيادة وحِصار التشكّلات الحديثة للكسل باعتباره انفصالاً تامّاً عن العالم، عن التحرك مع مُنتجاته الاستهلاكية بُبعدها القيمي والجري وراءها، إلا أنه يظل للحكي الشفهي متعة مختبئة. تلك المتعة تبدأ من الصورة الدارجة للحكي في الآثار العربية والشرقية التي يستعيدها هسّه، حيث حضور الثراء المكاني، والتعبير الجسدي الذي يستحيل من المُتخيّل المحكي إلى المساحة الجغرافية التي يشغلها الحكّاء والمُستمع. أسلوب أشبه بإيماءة خيالية يتلقاها المستمع، فيوجدها في الواقع، وتخلق البيانات المكانية المحكيّة بعداً جديداً للمحيط. الكسل هنا بمعناه الودود. فهو يخلق حكاية أبدية مفعمة بالثنائيات، والأهم، حكاية خالية من سُلطة أحادية مرجعها الراوي. من خلال هذا الكسل، فإن الأبدية تتواجد في أكثر من دورٍ. فالمستمع الأول يصبو أن يكون حكّاءً ثانياً، إذ تنتقلُ حالة التعبير من لسان إلى آخر، مصحوبة بلذّة الإضافة والتعديل، والتجاوز أحياناً. عملية الخلق هذه لا تتوقف عند سرد حكايةٍ ما، بل هي ممارسة وجودية مانعة للتراتبية وقائمة على التبادل، إذ إن أمام سلطة اللسان الواحد هناك سلطة بديلة لألسن لانهائية. وأمام إيذان الحركة العملية، هناك مقاومة بالهدوء والإتكاء الآمن الذي يستقبل الخيال. الكسل ذاته يعمل كحائط دفاع ليقتل حصر الإنسان بالسلطة لكي يثبّتها كفرد. الكسل أيضاً يعمل على إقصاء ما هو فردي ويدمجه بالكلّ. هناك دائماً سياق؛ بُعدٌ وظيفي للحركة، بينما «الوقوف» في كل أشكاله فمنزوع عنه النفعية، وبالتالي فهو ينطوي على إقصاء عن المُحيط. وحتى تتواجد عليك أن تتحرك دائماً، وهاجسُ الانفصال المخيف لصيق التوقف أياً كانت دواعيه.
على نحو إبداعي، لا يمكن للنشاط المتدفق والدائم، وخاصة الإبداعي، أن يكون مادة التحقق. فالكسل في أحد أشكاله، وقوف محفوف برغبة الربط في عملٍ ما، مثل غُرزة إبرة تربط ما انقطع بعد هوجة الحماس الأولى للدُخول في أي أمر. فحينما تتراجع القيمة المبدئية التي حفّزت المُبدع، يتجلّى الكسل مسحوباً عبر حُضوره القديم، كوقفة، يختبئ وراءها مشهدُ الجلوس لأجل اللاشيء، بينما ذلك اللاشيء يُمكنه أن يُحقق الاستمرارية، لأن بداخله قُدرة على استعادة القيمة مرة أخرى، أو رُبما فقد الشيء نهائياً.
يصيغ هسّه في مقاله المذكور داعي الأناة والبطء، بل والتوقف، لأجل تحقيق استمرارية نابعة من موقف شخصي، غير مُمل، في جملة جميلة، تعني أن يعمل الكسل كمحطة لدفع الأشخاص أن يكونوا «أشقاء الأرض والنبات والصخور». هذه الجُملة تذكرني بآلية إنتاج الفيلم كما يشتغلها المُخرج الفلسطيني إيليا سليمان. الأخير يمكنه صياغة مُنتجه السينمائي في وحدة مُتداخلة، بين التمثيل والإخراج والكتابة، ما يجمعُ هؤلاء كأشقاء لأبوية فنّية جامعة، هو الكسل، ليس البطء إنما الكسل بعينه، وفراغه وآليات تحديقه الطويلة. إن أكثر ما يلهم إيليا سليمان في إنتاجه الأفلام هو الجلوس محدقاً في اللاشيء، مع الصمت والتدخين. حتى عملية كتابة الفيلم فتحدث مزدوجة مع تصوّر ذهني للمونتاج. فالكتابة ليست أكثر من أفكار عدة مُلصقة على الحائط، تُطعَّم بالكسل اليومي، لتستحيل إلى فيلم، يظهر مرة كل عدّة سنوات، ليستحيل في محطّته الحالية إلى سيرة ذاتية كبيرة مُستحالة إلى قراءة العالم، تحت إطار السُخرية من كُل شيء.
يمكننا اعتبار ألبير قصيري الشقيق الأكبر لايليا سليمان في الكسل. قصيري كان يرى أن الكسول هو وحده من يستطيع التأمل في الحياة. كان قُصيري محظوظاً برفاهية الكسل، فقد عاشت عائلته من عوائد الإيجارات من دون حاجة إلى العمل، وهو بدوره ورث هذا الامتياز، فاستقر في باريس في غرفة فندق استأجرها لمدة أربعين عاماً، رافضاً أن يمتلك أي منزل. وراء هذا الوجه النحيل، العابس والكسول، هناك كتابات في المسرح والرواية والقصة، سيناريوهات لأفلام تسجيلية لم تُنتج، شراكة في تأسيس مجلة صحافية، ووعي شديد بالثقافة الغربية في زمن توهّجها الكوني في النصف الثاني من القرن العشرين. لم يكن الكسل عند قصيري خياراً اعتباطياً بقدر ما كان مُحاولة للخروج من أصفاد الحداثة والجري مثل «الثيران المُطيعة» في ساقية العمل بحثاً عن المال والشراء والتملّك.
لا يُمثّل ذكر سليمان وقصيري ومن يُشبههما كنماذج حقّقها الفراغ إبداعياً وحياتياً على أنها نماذج تحصر فردوس التجرد الذاتي من قبضة اللحظة الراهنة في عالم مُفعم بالجري وقيمية الحركة. فحتى في حالة عدم وجود نماذج مرجعية، تظل صورة الكسل المُعاصرة، مختلقة، مفتعلة من «الهياكل» الصناعية التي تروم الإنتاج، ملوّثة مؤسساتياً وخطابياً. هي صورة تنزع عنا الحق البسيط في أن نجلس في وقت ما، من دون التفكير ولا التطلّع، ومن دون أن نأمل في القيام بأي فعل يحقق هامشاً ربحياً أو قيمياً، لأنّ فعل التوقّف، في حد ذاته، يُمثّل قيمة.