«اعمل نفسك حمار وإنت فاهم، لكن ما تعملش نفسك فاهم وإنت حمار». سمعها وهو يُقلّب في طيّات الـ«ريلز»، فتلفّت حوله ثم أطلق ضحكة مدوّية. الجُملة تحوي سرّه المكنون. كثيراً ما ادّعى عدم الفهم، أو أنّه لم يتلقّف زلّة لسان مخاطِبه. إنّه يتحلّى منذ صغره بموهبة الاستغباء، وقد صقلها على مرّ السّنين، فراحة البال عنده أحلى من راحة الحلقوم. أما ما يتعلّق بالنصف الثاني من الجملة، فلم يخجل يوماً بعدم المعرفة، ومفردة «ما بعرف» جواب يجاهر به إن سُئِل عمّا لا يعلمه، وهو دافع للتزوّد والإلمام بالموضوع المطروح. إنّ أحد المحاور الرئيسيّة لفلسفة سقراط: «الحكمة الحقيقيّة الوحيدة تقوم على معرفتك بأنّك لا تعرف شيئاً»، وقد قال هذا بعدما قالت عنه كاهنة معبد أبولو في دلفي إنّه أحكم الناس.ممتعة لعبة خلق الشّخصيّات، ولكن ماذا عليَّ تسميته؟ عاطف؟ عاكف؟ عاصف؟ لا، عارف عارف، مناسب أكثر.
منذ مراهقته، يلج عاطف، بل عارف (عارف عارف - عائلته تحمل الاسم عينه -)، «الفريند زون» بإرادته، فعندما تُلَمِّح إحداهنَّ بإعجابها به، يُفضّل أن تظنَّ أنه لم يفهم على أن يجرح مشاعرها، إن أدركت أنه فهم ولم يتجاوب. يا له من مرهف! أبله - كالأمير ميشكين - لا يعبأ إن اتُّهم، لو خلسةً، بالغباء والسّذاجة.

ايليا غرازونوف، «الأمير ميشكين»

وعندما يجتمع مع أحد رفاقه، ذاك الذي يسرد قصصاً جرت معه، وهي لم تجرِ، أي إنّه متمرّسٌ بالكذب المتكرّر أو صناعة القصص الوهميّة لاستدرار الانتباه واستجلاب الثقة بالنفس، يستمع إليه باهتمام، ويتفاعل بكل جوارحه. يبدو على وجهه مدى انبهاره بالأحداث المرويّة، وتقديره البطل الخارق الذي يحكي شيئاً من مغامراته في الأدغال بين الوحوش والبِغال، كالمأخوذ بفيلم لهيتشكوك. لو كان يحبّ الفشار، لجعله الوجبة الرّئيسيّة وقت اجتماعه به.
تنامت موهبة عارف وبات متمكّناً. فعندما سأل زميلَه، الذي ظنّ أنه صديقه المُقرّب، عن الأسئلة المهمّة التي أشار إليها الدكتور، أرسل إليه عناوين الكتاب كافّة، وعندما التقيا وسط الحشد قبيل الامتحان، زلّ لسان الزميل الصديق وتورّط بذكر اسم الدكتور الذي قلّل المطلوب في آخر محاضرة، فحاول التدارك بلصق اسم مادة أخرى، فأبدى عارف أن التدارك انطلى عليه، إذ راحة البال عنده ألذّ من راحة الحلقوم.
ومرّةً ترك هاتفه مفتوحاً - بثقة مفرطة - مع صديق له، ليبحث الأخير في المحادثات من دون أي وازع، وذلك بهدف التأكد أن محبوبته لا تميل إلى غيره. اكتشف عارف الأمر فور عودته، ولكنه كعادته استغبى، مراعياً قلة ثقة صديقه - المفرطة - بنفسه وبالآخرين.
عندما بدأت نفحات النور تتسلّل إلى انطفاء عارف، في أزمة ربع العمر، عندما تبدّى القليل من الضوء القادم إلى النفق القاتم، عندما بدأ يحبو في ميدان الأمل، ردّة فعل غالبية المحيطين به - على قِلّتهم - لم تكن «مبارك أو بالتوفيق»، بل تفاوتت بين السؤال الجافّ - باستهجان -: «كيف؟»، ولزوم الصمت.
كأن النجاح تهديدٌ لهم. عوَض أن يفرحوا له ولأنفسهم، فاقتراب النور من محيطهم يشي بأن دورهم قادم، بادلوه بالجفاء. أما هو، فتحلّى بالاستغباء وكأنّه لم ينتبه إلى رمقات الغيرة التي هزّت كيانه. شعر أنه كريم بنزيما، الذي ظلّ يصفّق فرحاً من قلبه لزملائه المُتوّجين بجوائز الفيفا، وعندما حان دوره لاستلام «البالون دور»، ملأهم الغيظ وغاب الحبور.
أمّا ما يتعلّق بالنصف الثاني من الجملة، فيحيلنا إلى مثل شعبيّ هو: «خود حذرك من اثنين، جوعان جمع قرشين، وجاهل حفظ سطرين». عن نموذج «جوعان جمع قرشين»: روى أفلاطون، في الجزء الثاني من كتاب الجمهورية، قصة خاتم جايغيس، الراعي المسالم، الذي يعيش حياة بسيطة في مملكة لَيْديا. في أحد الأيّام، اكتشف جايغيس مغارةً، ولجها ووجد بين القبور خاتماً ثميناً فلبسه، ليكتشف أن الخاتم سحريٌّ، عند تحريكه يعطي صاحبه القدرة على الاختفاء، فراح يتمشّى في الأسواق وهو مختفٍ، ثمّ باشر بالسّرقة من المحلّات، ثم من منازل التجّار، إلى أن تجرّأ على التسلّل إلى قصر الملك، فأغوى الملكة وتآمر معها على زوجها، قتله واحتلّ عرشه. لم يعد الراعي الطيّب يخشى عواقبَ أفعاله. منحه الخاتم حصانةً حوّلته إلى شرّير يحقّق رغباته من دون رادع. أما نموذج «جاهل حفظ سطرين»، فقد تردّد عارف إلى مقهى سامي مدّةً من الزّمن، كان الأخير حالةً فريدة، غريب الأطوار، كلامه أقرب إلى الهذيان، ويسعى إلى إبهار الجميع بثقافته.
لكنّه لا يقول معلوماتٍ أو أخباراً، بل يتكلّم بلغةٍ مليئةٍ بالرّموز حتّى هو نفسه لا يفهم ما يقوله. هو لا يوصل إليك معلومة، بل كل مراده أن يوهمك أنّه يملكها. يظلّ يهذي إلى أن يغبطه أحد الزبائن على عقله ونباهته، فترتسم على وجهه ابتسامة ثقة وتعالٍ. والتّكرار أدى إلى أنه بات يُصدّق أنّه فطحل عصره، وصل به الأمر إلى وصفه جلَّ الناس بالقردة. وفي نقاشٍ مرّةً، تفوّه سامي بحقيقةِ ما يرنو إليه، بحماسة قال لأحد الزبائن عندما فُتِح موضوع موت الملكة إليزابيث وطقوس وداع الجثمان: «بلا ما احكي هلأ وتبين إنك ما بتعرف شي». أدرك عارف حينها أنّ استنتاجاته صحيحة، وأن صاحب المقهى يعاني غالباً من اضطراب الشخصيّة النّرجسيّة، إذ يحتاج إلى الإعجاب الدائم والتقدير، وفي المقابل يستمتع بإحباط الآخرين. سعى عارف إلى دراية الأسباب لحالة صاحب المقهى، ليتبيّن أنه قد تسرّب من المدرسة في سنٍّ مبكّرة، بعدم اكتراث من أهله وإهمال لأهمية التعليم، فحاول عندما كبُر التعويض بالمطالعة تارة، وبمجالسة أهل العلم تارة أخرى، ليتزوّد ويُقنِع نفسه أنّه الآن بات في المدرسة، وبقيّة أترابه في لهوٍ وعبث.
عارف موهوبٌ بالاستغباء، والاستغباء يوصل صاحبه إلى الاستغناء، إنّ الاستغناء زُهد - زهد بالأشياء وبالأشخاص - والزّهد ليس في ألا تملك شيئاً، بل في أن لا يملكك شيء. كجايغيس، يختفي المستغبي. ادّعاء عدم الفهم خاتمٌ سحريٌّ يجعله مُحصَّناً من الأحاديث الممجوجة والسجالات العقيمة والعتاب الذي ليس له قيمة. ومروراً بالاستغناء يصل إلى المُلك، ملك صافٍ، لا ريبة فيه ولا تآمر، إذ قال جلال الدين الرومي: «استغنِ يا ولدي، فمن ترك مَلك».