جنون العظمة» يكاد يكون صفة جامعة لأكثر من زعيم عالمي من الشرق الأوسط إلى أميركا الشمالية والجنوبية، غير أن مظاهره تتجلّى في تصريحات قادة أوروبيين، هم مجرّد نموذج لـ «عظام» كثر آخرين
مي الصايغ

ما الذي يجمع بين «نجم الإليزيه» الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي نافس المشاهير من خلال تصدّر تحركاته لوسائل الإعلام، ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني، الذي حوّل المشهد السياسي الإيطالي إلى قاعة للعروض، والقيصر فلاديمير بوتين الذي أيقظ الدبّ الروسي من سباته؟ إنه جنون العظمة.
جنون دفع صاحب الإمبراطورية التلفزيونية «ميدياسيت» سيلفيو برلوسكوني، إلى القول «أنا لا أحب السياسة وأتساءل لماذا أمارسها، لكني أدركت أنه ما من خيار آخر للحفاظ على وحدة اليمين».
وبُعيد تكليفه رئاسة الوزراء في عام 2001، رأى أنه «الرجل المناسب في الوظيفة المناسبة». ما دفع المفكر السياسي الإيطالي فرانكو بافينشيللو، إلى اعتبار «أنه مصاب بجنون العظمة». جنون بلغ به حد النظر إلى نفسه، على أنه «مسيح السياسة، والضحية الصابر، الذي يعطي نفسه للجميع، ويضحي بنفسه من أجل الجميع».
وقاد إعجاب العجوز المتصابي بنفسه إلى القول: «أنظر إلى المرآة وأسعد بما أرى، وأعتقد أنني أسر من يراني أيضاً». وعمد، خلال حملته الانتخابية ما قبل الأخيرة التي قادته إلى الحكم، إلى توزيع كتاب مجاني طبعت منه ملايين النسخ، وجده البعض أكثر سمكاً وأناقةً من دليل مهرجان «كان» السينمائي، لإطلاع المواطنين على سيرته الذاتية المميزة وإنجازاته لمصلحة إيطاليا وملامح مشروعه المستقبلي.
كما أدى غرور برلوسكوني، الذي يحتفل بعيد ميلاده الـ72 في أيلول المقبل، إلى تشبيهه بنابوليون بونابرت. فلم يجد برلسكوني منافساً له، إذ رأى أنه ليس هناك من شخص على المسرح العالمي يستطيع أن يدعي بأنه ندّ له.
وعن اتهامه باستغلال منصبه لحماية مصالحه المالية، قال برلوسكوني «إذا كنت أراعي مصالح كل فرد في هذا البلد، فعلي أن أراعي مصالحي أيضاً، ليس في هذا تضارب». مصالح وجد منتقدو برلوسكوني أنها وراء دخوله معترك السياسة عام 1993، لإنقاذ إمبراطوريته المالية، وخصوصاً بعد تكاثر مشاكله مع القضاء.
وإذا كان برلوسكوني قد استطاع الإفلات من قبضة العدالة والاستمرار في مساره السياسي، فإن ذلك راجع إلى تأسيسه لحزب «فورزا إيطاليا»، مستوحياً شعار «إلى الأمام إيطاليا» من المتحمسين لفريق كرة القدم الإيطالي «ميلانو» الذي يملكه، وتوظيفه البارع للبهرجة في الحياة السياسية وتحويلها إلى سيرك كبير، آسراً عقول الجمهور من دون منحه الفرصة لإمعان التفكير وتقصّي الحقيقة.
شخصية دفعت الروائي الأميركي، روبرت بان وارن، إلى تشبيه إحدى شخصياته ببرلوسكوني، من حيث اعتمادها على الديماغوجية للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، إذ «كانت قوة شخصيته تعتمد بالأساس على قدرته الكبيرة على إيهام جمهوره بأن لديه سراً ما يريد أن يبوح به إليهم».
وبالفعل كانت عيون الإيطاليين مشدودة دوماً إلى ما سيقوله برلوسكوني، وللحظة معينة بدوا كأنهم ينتظرون من رئيسهم المناور أن يفصح لهم عن سر نجاحه الشخصي وثرائه الفاحش، عسى أن ينالهم من ذلك نصيب. غير أنه مع مرور الوقت تصدعت صورته، بعدما فشل في إحداث النقلة النوعية في حياة الإيطاليين.
فبرلوسكوني لم يترك حيلة من حيل السياسة، إلا ومارسها بدءاً من صناعة الصورة والاهتمام بالشكل والماكياج وشدّ الوجه وزرع الشعر، إلى استخدام اللغة الشعبية والسخرية التي تقرّبه من الناخبين؛ ففي حديث لإحدى الصحف الألمانية، قال برلوسكوني عن الكسل المعروف عن الشعب الإيطالي، «في إيطاليا أنا أعدّ تقريباً ألمانياً بسبب عاداتي في العمل. أنا أيضاً مولود في ميلان، المدينة التي يعمل الناس فيها أكثر من أي مكان آخر في إيطاليا، عمل، عمل، عمل، أنا تقريباً ألماني».
ساركوزي
في المقابل، حقّق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الحلم الذي راوده منذ نعومة أظفاره بوصوله إلى سدة الرئاسة. وانتخب في السادس من أيار 2007 بـ53 في المئة من الأصوات بعد حملة انتخابية خاضها تحت عنوان «القطيعة» مع عهد الرئيس السابق جاك شيراك.
وشعر ساركوزي باقتراب تحقق حلمه بعدما أضحى عمدة بلدية نييلى ــ سير ــ سان، وهو لم يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، أي العمدة الأصغر سناً في تاريخ البلدات المهمة في فرنسا. حينها، سأله الصحافي دوهاميل ما إذا كان يفكر في رئاسة الجمهورية في كل مرة يحلق ذقنه أمام المرآة، فأجابه ساركوزي: «ليس فقط عندما أحلق ذقني».
كما يعرض كتاب «فجر مساء أم ليل»، وهو من تأليف الكاتبة المسرحية ياسمينة رضا، متابعة عن كثب لحملة ساركوزي الانتخابية، التي سعى خلالها على مدار عام كامل إلى تسلّم مقاليد الحكم في الجمهورية الفرنسية. وعقب فوزه بالرئاسة، قال ساركوزي «لقد أعطتني فرنسا كل شيء، والآن جاء دوري لأعطي فرنسا ما منحتني إيّاه».
وفي حديث إلى صحيفة «لو باريزيان»، قال ساركوزي «واجبي أن أكون نشطاً أكثر من اللازم، لأجعل دولة كانت ناعسة تفيق. إذا لم أضرب بيدي على الطاولة، إذا لم أطالب بنتائج، لن يحدث شيء».
ولا يخفي ساركوزي أن هناك قناعة ألهمت كلّ حياته السياسية ولا تزال تحرّكه منذ أن أوكل إليّه الفرنسيون المنصب الأوّل في الدولة. ويقول «لم أُنتخب كي أنحني أمام الحتمية، وأنا لا أؤمن أصلاً بالحتمية، لقد انتُخبت كي أخلق إمكانات، من أجل تغيير فرنسا عبر عملية مستمرة من الإصلاحات العميقة. انتُخبت مع قناعة أن لفرنسا دوراً كبيراً تؤديه في الساحة الدولية، دور لا يمكن الاستعاضة عنه».
ولفت ساركوزي إلى أن «كل المشاكل من ارتفاع أسعار المواد الأولية وسعر صرف اليورو والنفط والأزمة المالية، يجب أن تشجعنا على إجراء تغييرات بدلاً من الانطواء، لقد انتخبت لتطبيق هذه السياسة وهذا ما سأفعله». وأضاف «ليست مسألة أيديولوجيا ولا سياسة. ليست قضية يمين أو يسار، بل مسألة حكمة».
غير أن الخطر الحقيقي الذي يُحدِق به بسبب ديناميته وغروره وتسرعه، جعلته يدرك في قرارة نفسه، أن السحر الساركوزي تبدد في غضون أشهر، وأن غيوم سوداء بدأت تظلّل سماء الإليزيه منذ مطاع عام 2008وهو ما ذهبت إليه صحيفة «نيويورك تايمز» في 22 آذار من الشهر الماضي، إذ خصّصت افتتاحيتها للرئيس الفرنسي، طالبةً منه «الانضباط»، وواصفة إيّاه بـ«الاستعراضي». وانتقدت «انعدام الحكمة وسوء التصرّف» لدى شخصية «كدّت للوصول إلى سدّة الرئاسة. وعندما أصبحت في المكان المرتجى، فقدت السيطرة على نفسها». وعدّدت بعض الأمثلة التي «وصمت» بداية عهد ساركوزي، كالضجّة الإعلامية «المباحة» التي رافقت طلاقه، وزواجه وشهر عسله. كما ذكّرت بقرار ساركوزي «إنهاء» مقابلة مع شبكة «سي بي أس» الأميركية «بفظاظة» و«ملاحظته غير اللائقة بحق رجل رفض مصافحته».
إلا أن ساركوزي استمر في السير على المنوال نفسه، حتى وصلته الرسالة القاسية للفرنسيين عبر استطلاعات الرأي الأخيرة، التي أظهرت أن 72 في المئة منهم مستاؤون من أدائه.
استياء عزته الصحف الباريسية إلى التغيير في لهجة ساركوزي في مقابلته في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، إذ لفتت إلى تواضع مستجد و«نقاط ضعف غير معهودة».
بيد أن صحيفة «ليبيراسيون» اليسارية رأت أن «النبرة تغيرت. لكن الجوهر؟ فمرافعة الرئيس التي طرأ عليها مزيد من التواضع، تغير فيها الديكور بعض الشيء، لكن المسرحية تبقى ذاتها من دون أي تغيير».
بوتين
على الجبهة الروسية، لا يُخفي سيّد الكرملين السابق فلاديمير بوتين، الذي يتربع اليوم على رأس الحكومة الروسية ورئاسة الحزب الحاكم، حنينه إلى الاتحاد السوفياتي السابق الذي يرى أن تفككه كان «مأساة» على الشعب الروسي، لأنه ترك 25 مليوناً من الروس في أراضي دول أجنبية. كما يفرح بتشبيهه بباني الإمبراطورية الروسية القيصر بطرس الأكبر، وباعث ومحرك الشعور القومي من جديد، وصاحب الخطوات التصعيدية تدريجياً في وجه الولايات المتحدة والغرب.
وقد اختارت مجلة «تايم» الأميركية بوتين «شخصية العام 2007» نظراً لما حققه من استقرار داخلي. فهو مهندس عملية تحوّل اتحاد الجمهوريات الروسية من حالة التخبط والفوضى التي سادت أيام سلفه بوريس يلتسين، وعرّاب عودة روسيا إلى مصاف الدول التي يحسب لمواقفها حساب.
إذ تمكن فلاديمير بوتين، ابن المدينة التاريخية «لينينغراد»، التي أعيد إليها اسمها الأصلي سان بطرسبرغ تيمّناً ببطرس الأكبر، من احتلال موقع له في صفحات التاريخ، وانتزاع خلافة القياصرة من بين يدي بوريس يلتسين في آذار 2000.
خلافة يرى ضابط الـ «كي جي بي» السابق «أن القدر اختارني لأؤدي دوراً إيجابياً في تاريخ شعبي»، الذي يعتبر نفسه جزءاً منه وتربطه به علاقة قوية. لقد شعر بذلك من قبل ولا يزال، ومنذ اتخذ قراره، ووضع ذلك الهدف نصب عينيه، «متناسياًً حياته ومصالحه الخاصة».
ورداً على سؤال عما إذا كان بوتين يعتبر نفسه زعيماً قوميّاً، قال سيد الكرملين السابق، في حديث إلى مجلة «تايم» في كانون الأول من العام الماضي، «قررت أن أكون مستعداً لعمل كل ما في وسعي لإعادة روسيا إلى سابق عهدها».
ورغم مغادرته سدة الرئاسة، أبى بوتين إلا أن يبقى محرّك الزمان والمكان في بلد الصقيع والفودكا والدببة. ويأتي قرار بوتين بتولي الحكومة الروسية في ظل رئاسة ديمتري ميدفيديف، في سياق خياراته في لعبة الحكم وصولاً إلى تقلّد دور «القائد الشعبي» في روسيا. كما أن قيادته لحزب «روسيا الموحدة» ستسمح له بالاستمرار في الإمساك بأحد أهم مفاتيح الحكم بعد خروجه من الكرملين.
وفي تأكيد على أنه الموجّه للسياسة الروسيّة، حدّد بوتين قبل أقل من شهر على الانتخابات الرئاسية، استراتيجية روسيا حتى عام 2020 والمسار لخليفته. وأضاف «سأكون عاملاً يمكن أن يعتمد عليه الرئيس المستقبلي، ومن البديهي، إنه ينبغي لنا التوصل إلى اتفاق على كيفية أداء واجباتنا».
وفي ظل تجاوز شعبية بوتين 70 في المئة، رأى رئيس مركز «نيكسون» الخبير في الشؤون الروسية المعاصرة، ديمتري سايمس، أن «بوتين يظهر كإمبراطور منتخب، وأن العديد شبّهه ببطرس العظيم»، فيما رأى فريد زكريا، في دراسة أعدّها معهد «بروكينغز»، أن «موسكو تعود إلى فلك الديكتاتورية، رغم أن قبضة بوتين الحديديّة يغطيها تفويض من الشعب الذي كرسه زعيماً، إنه النسخة الروسية الديموقراطية الضيقة الأفق».
ورغم الانتقادات الغربية لنظرته الخاصة إلى النظام السياسي الروسي البعيد عن الديموقراطية الغربية، الذي قضّ مضاجع نظام بوتين على مر السنوات الفائتة، نوّه الرئيس الروسي السابق بـ «التعددية» في خدمة المواطنين «بلا ديماغوجية» وقطعاً «بلا تدخل أجنبي». وقال، لقناة «الجزيرة» القطرية في شباط من عام 2007، «لا أفهم كيف أن بعض شركائنا يريدون إرجاعنا إلى مرحلة حيث يرون أنفسهم متفوقين علينا وأكثر تحضّراً، ويعتقدون أن لديهم الحق لفرض معاييرهم علينا. ليذهبوا إلى الصين ويحاولوا تولي زمام الأمور في بلد بيلغ عدد سكانه 1و5 مليار نسمة. أشك أنهم سيقومون بذلك أفضل من الرئيس الصيني هو جنتاو. الشيء الذي يجب أخذه بالاعتبار هو أن المعايير التي يجري فرضها من الخارج، ولا تكون من رحم التطورات الطبيعية والداخلية لهذه المجتمعات، من شأنها أن تؤدي إلى عواقب مأساوية، وخير دليل على ذلك ما هو حاصل في العراق».
يضاف إلى سجل بوتين في تحقيق الاستقرار إنجاز آخر في نظر الروس، هو قدرته على قيادة حركة مناهضة لهيمنة «الحضارة» الأميركية على العالم. يقول «لديّ شعور بأن بعض شركائنا لا يمكنهم الانتظار حتى أتوقّف عن ممارسة سلطاتي حتى يمكنهم التعامل مع شخص آخر، كما أنني اعتدت منذ فترة طويلة مقولة إن من الصعب التعامل مع ضابط سابق في جهاز كي جي بي».