يذهب رئيس الحكومة التركيّة رجب طيّب أردوغان هذه الأيّام، بعيداً في «واقعيّته» السياسيّة، في مواجهة التحدّيات المصيريّة التي تفرضها عليه وعلى حزبه، العقليّة العسكريّة المتحكّمة في مفاصل الحياة السياسيّة في أنقرة. البعض بات يرى أنّ رئيس الوزراء، منذ وجد نفسه في مواجهة خطر حظر حزبه «العدالة والتنمية»، وحتى المنع من مزاولة العمل السياسي، بموجب قبول المحكمة الدستوريّة النظر بدعوى المدّعي العام عبد الرحمن يالتشينكايا، أخذ يتّخذ خطوات تراجعيّة. يحصل ذلك على الرغم من أنّ كثيرين رأوا أنّ الدعوى كانت مناسبة «تاريخيّة» لخوض معركة أخيرة في وجه «دولة الجنرالات العميقة»، لاستئصال نفوذهم الذي لا يزال يعرقل دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وولوجها درب الديموقراطيّة بعيداً من مسلسل الانقلابات العسكريّة، البيضاء أو الحمراء.كان أردوغان وحزبه وحكومته، أمام خيارين: المواجهة أو المسايرة. الأوّل يختصره الإقدام على طرح دستور جديد أمام الاستفتاء الشعبي، يصبح معه حلّ الأحزاب السياسيّة شبه مستحيل، وتصبح فيه يد العسكر مقتصرة على تنفيذ أوامر السلطتين التنفيذية والتشريعية في الشؤون الحربيّة، من دون التحكّم بالشؤون السياسيّة والقضائيّة والتربويّة.
أمّا المسايرة، فهي بدورها تنقسم إلى جزءين: الحادّة والناعمة. الأولى كانت تقتضي قراراً جريئاً لوّح به الحزب الحاكم، لكن لم يلتزم بتنفيذه، وهو عبارة عن تعديل المادّتين 68 و69 من الدستور قبل إعطاء المحكمة الدستوريّة ردّها على دعوى يالتشينكايا، بشكل ينتزع من هذه المحكمة صلاحيّة النظر بهذا النوع من الدعاوى. الأمر لم يحصل. إذاً، أدخل أردوغان حزبه وحكومته بشكل تلقائي، باب التسوية والمساومة.
وكشف أردوغان أوّل من أمس عن قراره السير في الآليّة القانونيّة الدفاعيّة أمام المحكمة الدستوريّة، حتّى إنّه ألّف هيئة الدفاع لتقديم مرافعتها. كما أعلن نيّته نقل الصراع من مستلزمات التغيير الداخلي، إلى التعديلات الدستوريّة المطلوبة أوروبيّاً، عشيّة وصول رئيس المفوّضية الأوروبيّة خوسي مانويل باروسو ومسؤول توسيع الاتحاد، أولي ريهن، إلى أنقرة (غداً) لتقديم دعم اتحادهما إلى حكومة أنقرة في وجه العسكر، على قاعدة: حلّ حزب «العدالة والتنمية» يطيح العضوية.
الترجمة الحرفيّة لقرار أردوغان جاءت على لسانه. فالأساس اليوم هو تعديل المادّة 301 من قانون العقوبات التركي، وهي المادّة التي تعاقب بأقصى الأحكام، كل من يشتم «القوميّة التركيّة»، turkishness.
صحيفة «حرييت» جزمت بأنّ الحزب الحاكم غضّ النظر نهائيّاً عن فكرة تعديل المادتّين 68 و69 من الدستور، قبل أن يصدر حكم المحكمة الدستوريّة غير المتوقَّع قبل عام من اليوم. حتّى إنّ نائب رئيس الكتلة البرلمانيّة لـ«العدالة والتنمية»، دنغير محمد فرات، أشار بوضوح إلى بحث حزبه مساومةً مع الطرف الذي لا يريد سوى القضاء عليه، عندما قال «سنظلّ نبحث مع مختلف أحزاب المعارضة بهدف بلورة حلّ توافقي يعزّز نظامنا القضائي والديموقراطي».
لكن حتّى عندما قرّر أردوغان التخلّف عن مواجهة خصومه بشكل جذري، من خلال تعديلات لا تتناول انتزاع حقّ المحكمة الدستورية بحلّ الأحزب، فسيواجه عقبات جديدة؛ فحليفه الذي لا غنى له عنه في تأمين غالبيّة ثلثي أصوات المجلس لتمرير أي استحقاق برلماني يواجهه، أي حزب «الحركة القوميّة التركية»، وضع لائحة مؤلّفة من 7 بنود عرض فيها «خطوطه الحمراء»، التي لن يسمح بالمسّ بها، وفي مقدّمتها، قضيّة تعديل المادّة 301 من قانون العقوبات. فمن أين سيأتي أردوغان بحليف بديل؟
(الأخبار)