ترنو الشاعرة إلى المستقبل من خلال إنجاب طفل لا يحب الحرب، نقيض أطفال سوريا هذه الأيام. أمام هذا الواقع الدموي الذي عاشته منذ 2011 حتى الآن (لكن طفلي المولود من العدم، سوف ينجب أطفال خضراً، عيونهم على التجربة وأقدامهم في العاصفة)، وما مرت به البلاد السورية من دموية وحرب مفرطة، ستكون أمام أطفال المستقبل لكي لا تتكرر هذه الحقيقة الدمويّة التي لم تصل بالإنسان السوري إلى الحرية والعدالة.
تسأل الشاعرة هنادي في القصيدة: «ماذا لو مت الآن؟/ من سينتبه إليّ،/ أنا الفتاة غير المرئية،/ التي تخرج من الصباح حتى المغيب». وتطرح السؤال المقلق الذي يجتاح كل إنسان سوري، ماذا لو مت الآن؟! من يهتم منذ عام 2011، لموت آلاف السوريين سواءً في الحرب أو البحر، وتجيب «أن رائحة تشبه الخذلان» هي الأساس في حياة السوري سواءً داخل البلاد أو خارجها، الحرب التي عاشها ويعيش بقاياها جعلت منه سابحاً في فضاء لا إنساني يقزم حياة البشر إلى ثمن رصاصة.
تلامس الشاعرة مشاعر طفل سوري مدلل طلب من الله إعادة ترتيب العالم كل صباح، فأخذ المطلب على محمل الجد: «لكنه بالغ قليلاً في تدمير العالم./ لعله نسي خلطته السحرية في ترتيب بلادي،/ وتركها في أيدي أولاد حمقى./ أنا طفل مدلل أحمق،/ لا يكف عن التذمر من كل شيء».
في القصيدة تداعب عالم الطفل من خلال العبث بالاستجابة العُلويّة لمطالب الأطفال. فالصوت في القصيدة ينضح بالبساطة والسذاجة في رؤية طفل استجاب الإله لطلبه في دفع قوة التدمير في البشر إلى مساحة اللامنطق.
تمرر الشاعرة زرقة الحب، بين الحرب والموت حيث تقول: «كثيرة هي الحافلات التي صدمتني:/ حافلة الوقت،/ حافلة الموت،/ حافلة الحب،/ وحدها التي أردتني قتيلة./ الحافلة التي هي أنتَ!». الحب هو الذي أرادها قتيلة، رغم كل الشرود على الإشارات الحمراء الكريهة في الشارع والحياة والكتاب، فالقتل يأتي من حافلة الحب! حافلة من تحب! وسطوته.
إن الذاتي حول الحب يمدّ رأسه من القصيدة 83: «لم لا تنعدم الجاذبية الآن،/ فتقوم من سريرك؟/ ثم لا تلبث الجاذبية أن تعود،/ فتسقط في سريري بثقل حبك!/ لم لا نتبادل الأدوار؟/ فأقوم من سريري وأسقط في قلبك؟/ كل ذلك شريطة ألا يتغير مركز الجاذبية/ ويغدو قلبك مسقطاً للنساء./ سأعود إلى النوم».
جوانب من الحياة السورية في زمن الحرب
هذا الجدل يعبّر عن صنّاع المحبة، فالحب فعل جسدي ملموس أكثر منه مشاعر! والحب يحتاج إلى إنسان آخر يتجاوب مع هذه العواطف فيرتبط بالطبيعة الكونية التي تحوّل الجاذبية إلى فعل إنساني أكثر منها ضرورةً كونيةً، لا تغيب عنها غيرة البشر!
ظاهرة موت المهاجرين في البحر تأخذ هنادي إلى مياهها: «تعلم جيداً أنني أجيد السباحة،/ لكنني لا أثق بالبحر الذي شرب أخوتي./ مذ عرفتك وأنا أغرق في شبر ماء./ لم أكن ساذجةً،/ لعله الحب،/ لعلها الحرب،/ من جعلا قلبي واهناً،/ وذراعيّ مشلولتين».
تربط هنادي بين الغرق في البحر الذي ابتلع السوريين وبين الحب، وعدم الثقة به، وحالة الذهول التي سكنتها بسبب الحب والحرب وجعلتها غير قادرة على الفعل، والإشارة العابرة إلى موت السوريين في البحر نتيجة الهجرة جعلت من الإنسانة التي تجيد السباحة مشلولةً.. مشلولةً أمامهما، كأن أحدهما يتقمص الآخر!
وما يلفت الانتباه في الديوان أن القصائد فيه بلا عناوين. أرقام القصائد تصل إلى الرقم 86، فهل لأن السوريين أصبحوا مجرد أرقام؟! أو أنها عدد الأيام التي تعد على السوريين في زمن وتمضي بهم إلى المجهول؟ أم أنها إشارة إلى أن الضحايا فيها ليسوا إلّا أرقاماً؟!
إن ديوان هنادي زرقة مؤلم، حقيقي، يرصد جوانب من الحياة السورية في زمن الحرب حيث ما زال الحب مستمراً في هذه البلاد رغم كل الكوارث، ويسجل كيفية ذهاب السوريين إلى الموت فرادى وجماعات؟! وهم قبل ذلك كانوا عشاق الحياة بأشكالها كافة الرغيدة والخشنة، لكن حلبة الموت التي دخلوها مكرهين جعلت منه سيفاً مسلطاً على رقابهم بعدما خرجت خيوط اللعبة من أياديهم، وأصبح أمامهم الموت على يد الآخرين القابعين على أرضهم! كما هو خلال سعيهم للمضي إلى بلاد الآخرين حتى لو كانت عبر البحار التي تبتلعتهم!