«الكبيرة» الثانية، هي الصندوق «الأكبر»، صندوق النقد الدولي. قررت الحكومة الطلب إليه تقديم برنامج للبنان. أي أن الدولة قررت أن تطلب منه وضع دفتر شروط لإقراضها. وشروط صندوق النقد واضحة في تقاريره السابقة عن لبنان. أولها خفض حجم القطاع العام. والقطاع العام في لبنان ينقسم إلى عسكريين وأساتذة تعليم رسمي وموظفي قطاع عام. لن يجرؤ أحد على المس بالعسكر. وموظفو الإدارة قليلو العدد، حيث الشغور يفوق نسبة خمسين في المئة. يبقى أساتذة التعليم الرسمي. المسّ بهؤلاء يعني عودة المدرسة الرسمية إلى أيام كان في الصف الواحد أكثر من 40 تلميذاً، ويؤدي إلى تراجع جودة التعليم الرسمي، ودفع السكان دفعاً نحو منظومة المدارس الخاصة التي يحاولون الهرب منها. ومن شروط الصندوق أيضاً، خفض الإنفاق على الصحة، ما يعني تلقائياً خفض ما تدفعه وزارة الصحة لتغطية استشفاء غير المضمونين، وهم من الطبقات الأكثر ضعفاً. وفي الأصل، فإن برامج الصندوق مبنية على الدفع بعد تنفيذ الشروط. والدفع ليس هبة، بل دَيناً، يُقدّم لتمويل عجز ميزان المدفوعات، أي لتمويل الاستيراد بالدرجة الأولى. وبهدف الحفاظ على قدرة البلد، طالب البرنامج بتسديد ديونه. فهل هذا ما يحتاج إليه الاقتصاد اللبناني؟ المشترَك الخطِر بين الصندوقين هو أن الحكومة تأتي بتمويل لتسديد الخسائر في القطاع المصرفي، وبديون لاستدامة الدين وتمويل الاستيراد. سيجري ذلك على حساب الاستثمار في الإنتاج، والنهوض الاقتصادي، وخفض البطالة، والإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي. من أين سيؤتى بالمال للإنفاق على ما تقدّم؟ من «سيدر» وأشباه «سيدر»، ما يعني الاستمرار بالسياسات السابقة.
عدم اتخاذ قرار بشأن سعر الصرف يعني تركه لمشيئة صندوق النقد الدولي
ثمة خطر إضافي في اللجوء إلى صندوق النقد، يُضاف إلى شروطه القاسية بشأن رفع الدعم عن كُل ما يُدعم (القمح مثلاً، الكهرباء...) وزيادة الضرائب... الخطر يتمثّل في التوقف مستقبلاً عن الاستجابة لشروط الصندوق، فهذا ما سيدفعه إلى الانسحاب من تنفيذ برنامج للبنان. هل يتخيّل أحد أن الاقتصاد المنكمش، وغير المنتج، سيتحمّل كلفة خروج الصندوق بعد دخوله؟ لا بأس هنا بمراجعة تجارب دول ذات اقتصاد أكبر بأضعاف من الاقتصاد اللبناني، وما جرى عليها بعد تخلفها عن تلبية شروط صندوق النقد.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أسطورة تزعم أن صندوق النقد سيأتي بالإصلاح الذي سيطيح الفساد، على قاعدة أن «المؤسسات الدولية» طاردة بطبيعتها للفساد. لا يحتاج دحض هذه الأسطورة إلى أكثر من الاطلاع على التجربة المصرية. في بلاد النيل، لم يفعل صندوق النقد سوى تمويل منظومة الفساد المتحكمة بالاقتصاد.
تبقى مشكلة ثالثة رئيسية في الخطة الحكومية، وهي عدم اتخاذ قرار بشأن سعر الصرف الرسمي لليرة. وهذا السعر تحرّر فعلاًَ، حتى بات اليوم أربعة أسعار على الأقل. ورغم ذلك، قررت الحكومة، في خيار يبدو شعبوياً لا أكثر، القول إنها ستُبقي سعر الصرف الرسمي على حاله، أو إرجاء القرار بشأنه إلى مرحلة لاحقة. الخطورة في ذلك أنه قد يؤدي عملياً إلى ترك القرار بيد صندوق النقد الدولي، الذي سيطالب بتحرير سعر الصرف، وتركه للعرض والطلب، فيما كان بمقدور الحكومة وضع سياسة لإدارته، والتحكم به، لتفادي انهياره عند كل أزمة، أو عندما يشاء المضاربون. أما الحفاظ عليه كما هو حالياً، فيحتاج إلى الإجابة عن سؤال: بأيّ دولارات سيدافع مصرف لبنان عن السعر الرسمي لليرة؟