بين عامَي 1991 و2005، كان يُقال للرأي العام المسيحي إن «المشكلة» تكمن في رفيق الحريري مرة و«السوريين» مرات. لاحقاً، بعد عام 2005، ظهر مصطلح تصحيح التمثيل السياسي - الطائفي لمعالجة «المشكلة». وما كاد هذا التمثيل يُصحّح على دفعتين نيابيتين ثم على مستوى الحكومات ورئاسة الجمهورية، حتى «تبيّن» أن «المشكلة» في مكان آخر، ولا بدّ من «تدقيق جنائيّ» لحلّها.لا أحد يعرف بوضوح ماهيّة «المشكلة». لكن كلّما كان يفترض أن ستنفرج كانت تتأزّم. أخرجت الأحداث سعد الحريري من المشهد، وانكفأ وليد جنبلاط، وتقاعد رياض سلامة، وتشتّت من يفترض أنهم أركان «المنظومة»، وبلغ التدقيق الجنائي خواتيمه... لكن لم تُحل «المشكلة». فجأة، خرج هتاف - شعار - قضية جديدة: «اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة». عنوان ضخم تتخيّل فور سماعه هتافات وتصفيقاً وصفيراً، وغالبية عونية بين «الجماهير» مع متحمّسين قواتيين ومجموعات من «جنود الرب». ولكن، بعيداً عن حماسة الجماهير الدائمة، ماذا لو تبيّن، بعد عشر سنوات أخرى من التجربة، أن حال «اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة»، من حال الانسحاب السوري وتصحيح التمثيل والتدقيق الجنائي وعزل الحريري وجنبلاط وسلامة وتعطيل مجلس النواب واعتبار الحكومة غير ميثاقية وغيرها من العناوين التي خيضت في سبيلها معارك طاحنة، وأن «العنوان الجديد» لا يحلّ «المشكلة»، غير المحدّدة أساساً.
أساس السؤال والنقاش علمي - عقلاني وليس غرائزيّاً - انفعاليّاً، وإيجابي وليس سلبياً: هل اجتمعت نخب سياسية واقتصادية واجتماعية ومالية لتحدد حقيقة «المشكلة» بوضوح قبل أن تطرح الحلول الممكنة وخريطة الطريق لكل منها، فحدّدت «اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة»، مثلاً، أو اختار «القائد» - كما في كل مرة - عنواناً جذاباً يسير المناصرون خلفه صاخبين؟ وهل اجتمع في جامعة الكسليك أو اللويزة، أو في مكتب هذا الوزير أو مقر ذلك الحزب، اختصاصيون في الجغرافيا والتاريخ والمال وعلماء اجتماع وسياسة وديموغرافيا؟ من أعدّ الدراسات اللازمة؟ وهل هذا عنوان تكتيكي شأنه شأن «بدنا وفينا» و«عدم توزير الخاسرين» و«الإبراء المستحيل» الذي تحوّل إلى ملف لدى القضاء أم مشروع استراتيجي لبناء دولة؟ وما الهدف منه: بناء الدولة أو «الوجود المسيحي» الذي لم يعد أحد يعرف ما إذا كان مرتبطاً بالمصرف والوظيفة أم بالشاطئ والجبل أم بالكنيسة والمدرسة أم بماذا تحديداً؟ وهل استعيض عن حلم الدولة بحلم اتحاد بلديات مثلاً؟ ما هي الأولوية اليوم: تعزيز صلاحيات البلديات ومداخيلها أم معالجة الأزمة المالية والاقتصادية وحل مشكلة الكهرباء والمياه والبنية التحتية؟
لا بدّ من العودة دائماً إلى «المشكلة». ما هي المشكلة التي يُبحث لها عن حل عبر «اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة»: الإنماء غير المتوازن أم الانهيار المالي أم التفكّك الاجتماعي أم اليأس والهجرة؟ هل توصّل الباحثون إلى وجود علاقة بين الخروج من الانهيار المالي، والمركزية أو اللامركزية؟ هل تكمن «المشكلة اللبنانية» اليوم، مثلاً، في أن مواطناً يدفع رسوم الكهرباء أكثر من مواطن آخر؟ وهل من أرقام علمية رسمية تثبت ذلك أم أنها مجرد تخمينات تتعارض مع أرقام وزارة الطاقة يطلقها ناشط سياسيّ أو مغرّد؟ هل البحث جارٍ عن حلول للوطن أم لشركة كهرباء لبنان؟ هل تعالج اللامركزية التهرب الضريبيّ وتدفّق النازحين وارتفاع معدلات الهجرة وانعدام فرص العمل (أو عدم رغبة كثيرين في العمل)؟
مرة أخرى: من حدّد المشكلة وعيّن الحل؟ شخص أم جماعة؟ وبناءً على حلم راود الشخص أم على دردشة مع محازبين أو استناداً إلى دراسات ونقاشات واستطلاع للرأي العام؟ من يقود الآخر وإلى أين: الشخص أم الرأي العام؟
ثمّة نماذج مركزية فاشلة وأخرى ناجحة، تماماً كما أن هناك نماذج لامركزية فاشلة وأخرى ناجحة. ولكن، بين بلديات الشوف وعاليه وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل التي كانت تملك ثروات مالية هائلة، هل ثمة نموذج واحد يُحتذى على مستوى الشفافية والحلول الإنمائية المستدامة، يجرؤ المعنيون على القول إنهم يريدون إعطاءه أكثر؟ على مستوى البترون، مثلاً، هل يجد رئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل، بعيداً عن المسايرات الانتخابية، أن البلدية نعمة أم نقمة؟ لو كان الأمر بيد باسيل وحده: هل يضاعف من صلاحيات رئيس بلدية البترون واتحاد بلديات المنطقة أم يحرر المستثمرين من تلك الخشية الدائمة على مشاعر الناخبين الذين يقيّدون رؤساء المجالس البلدية بحسابات صغيرة؟ هل يعتبر باسيل أن أي بلدية تشدّ أحلامه الإنمائية إلى الأعلى أو الأسفل؟
هل من دراسة جدية واحدة لدى القوى المتحمّسة للَّامركزية حول حقيقة توزّع الثروة في البلد؟


الهدف من الأسئلة إيجاد أجوبة إيجابية مقنعة لا العكس: هل ثمّة نموذج مشرّف واحد على مستوى مصالح المياه التي راكمت الأرباح طوال عقدين مستفيدة من «ميني لامركزية إدارية ومالية»؟ وهل ثمّة نموذج مماثل على مستوى النقابات التي توزع «دكاكينها» وفق اللامركزية أيضاً؟ أو على مستوى الهيئات الاقتصادية التي تنعم باللامركزية الإدارية والمالية المطلقة: ما هي الإيجابيات التي يفترض المراكمة فوقها والتمثّل بها، والسلبيات التي يفترض تجاوزها؟ أين إيجابيات اللامركزية على مستوى معامل فرز النفايات ومحطات تكرير المياه التي أنشئت العشرات منها في العقدين الماضيين وهي بغالبيتها اليوم خارج الخدمة؟ هل يمكن اللامركزية الإدارية والمالية أن تعطي، مثلاً، قضاء كقضاء بشري أكثر مما حشدته له القوات اللبنانية في العقدين الماضيين، وماذا كانت النتيجة؟ والأهم: ماذا إذا تبيّن لاحقاً - بناءً على كل التجارب السابقة – أن اللامركزية المالية الموسّعة ليست هي الحل؟
قبل التحمّس مع المتحمّسين، ثمة نقاش لا بد من خوضه:
في حرب تموز 2006، دُمّر من المساحات والمباني أضعاف ما دمّره انفجار المرفأ. لاحقاً، في الضاحية والجنوب والبقاع، خاض حزب الله تجربة إعادة الإعمار وفق لامركزية إدارية ومالية تامة وضعها في تصرف المعنيين بعد الانفجار. غير أن الحلفاء والخصوم فضّلوا يومها ترك إعادة إعمار يومها إلى لامركزية إدارية ومالية تتزعّمها الجمعيات ويموّلها المجتمع الدولي الذي أعلن صراحة أنه لا يثق بالدولة المركزية. المقارنة بين ما أنجزه الحزب وما «أنجزته» هذه الجمعيات من هدر وفساد وإفساد لم يصل إلى المواطن بموجبه سوى فتات الفتات، تساعد على تخيّل كيف سيكون عليه الوضع في ظل اللامركزية الإدارية والمالية في كل من اتحاد بلديات الضاحية واتحاد بلديات الأشرفية والرميل والصيفي؟
ومن إعادة الإعمار إلى تجربة أخرى يتكرر ذكرها شهرياً في المواقع الإخبارية: حين تتعطّل مضخّة مياه في النبطية أو صور أو بنت جبيل يسارع الحزب إلى شراء مضخّة جديدة مع كامل التجهيزات بكلفة لا تقل غالباً عن 100 ألف دولار، فيما تمضي مناطق بأكملها في ساحل المتن الشمالي وكسروان وجبيل، الصيف من دون مياه عندما تتعطّل مضخّة مياه صغيرة لعدم وجود مموّل واحد بين عشرات المزايدين في الذود عن مصالح الناس. لماذا ينتظر هؤلاء إقرار المراسيم التطبيقية للَّامركزية طالما أن هناك لامركزية على مستوى المياه؟ لماذا لا يبدأون من مصالح المياه لتقديم نموذج يُحتذى به إلا إذا كان هذا هو النموذج: ستجد بعض المناطق حزباً منظّماً فاعلاً قادراً على معالجة مشاكلها، فيما لن تجد مناطق أخرى غير المزايدين للهروب الدائم إلى الوراء.
من الماضي غير البعيد تجربة أخرى يمكن التوقّف عندها: مع انتشار جائحة كورونا، استحدث حزب الله في ظل اللامركزية الطبية والمالية الموسّعة فريقاً خاصاً تعددت مهامه الطبية والتعقيمية والتنظيمية، ووضع هذا النموذج في تصرف قوى أخرى لاستحداث ما يشبهه، لكنها فضّلت عدم القيام بشيء. وهو ما يقود إلى لامركزية اجتماعية أخرى تتنافس فيها الروابط الاجتماعية في كل من حركة أمل وحزب الله حين تسارع فور وفاة أحدهم إلى وضع قدراتها الاجتماعية (سيارة الإسعاف، الكراسي، أجهزة الصوت ...) بتصرف أسرته؛ هل يجب انتظار المراسيم التطبيقية للَّامركزية لكي تعزّز القوات والكتائب والتيار والبطريركيات المسيحية حضورها الاجتماعي إذا كانت ثمّة نية حقيقية لذلك؟
من هذه التجارب الصغيرة إلى الأساس: هل من دراسة جدية واحدة لدى القوى المتحمّسة للَّامركزية حول حقيقة توزّع الثروة في البلد؟ إذا كان المال مرتبطاً منهجياً بالحركة الاقتصادية، هل ثمّة تصوّر حقيقي حول التوزّع الجغرافي للحركة الاقتصادية عام 2023 وليس عام 1963 أو عام 1993؟ هل أطلعت الرهبانيات القوى السياسية المسيحية عما في حوزتها من أرقام عن التوزّع الطائفي للطلاب في المدارس والجامعات المسيحية الخاصة؟ هل من تصوّر زغرتاوي أو بتروني أو جبيلي حول حجم وطبيعة الإنفاق الطرابلسي في هذه الأقضية الثلاثة بعد نزوح الطبقة الوسطى الطرابلسية الكبيرة خارج مناطق الحركة التقليدية للطرابلسيين؟ هل قدّمت المصارف تصوراً أولياً حول توزّع الطبقة الوسطى طائفياً في المصارف اليوم؟ هل قدّمت جمعية الصناعيين تصوّراً حول التوزّع الجغرافي – الطائفي للصناعيين أو التجار بعد سقوط الوكالات الحصرية إلى غير رجعة؟ والأهم، هناك اليوم في بعض المناطق حضور مالي كبير للملحقيات الثقافية الخاصة بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى تؤمّن وظائف لآلاف الشباب وتموّل مئات المشاريع الإنمائية الصغيرة والمتوسطة؛ ليس بهدف الإنماء طبعاً إنما لأهداف سياسية تتصل بتطلعات هذه الدول في المنطقة، فهل ستحافظ هذه السفارات على اهتمامها بهذه المناطق في ظل اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة أم ستسعى لنقل حضورها إلى مناطق نفوذ حزب الله واستقطاب الموظفين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة هناك للحفاظ على رضى الكونغرس وغيره من الجهات المموّلة؟ وفي ظل اللامركزية الإدارية والمالية، ستكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستعدة غداً صباحاً للبدء في بناء وتشغيل معامل كهرباء التي طال انتظارها في مناطق نفوذ حزب الله استكمالاً لما بدأته بعد حرب تموز على مستوى البنية التحتية، من أوتوسترادات ومستشفيات وجسور وشبكات مياه... لكنّ أيّاً مِن الدول ستبادر، في المقابل، إلى الاستثمار في البنية التحتية في مناطق أخرى، إذا ما أُخذ في الاعتبار الرفض السعوديّ لاستيراد التفاح البشراوي على الأقل رغم كل الجهود التي بذلها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، لا لشيء سوى لعدم شعور المملكة بأن ذلك يفيدها في الصراع مع إيران أو مع حزب الله. لإيران أهداف استراتيجية بعيدة الأمد تشجّعها على الاستثمار في مناطق نفوذ حزب الله وربما مناطق لبنانية أخرى. لكن، في ظل الانكفاء الخليجي الواضح، من سيهتم بالاستثمار في معمل للكهرباء في كسروان أو المتن أو بعبدا؟
يمكن لمن يقرأ الأرقام والدراسات أن يفهم حماسة الحزب للَّامركزية الإدارية والمالية الموسّعة إذا كان إقرارها يوصل البلد إلى حل، لكن ما لا يمكن فهمه هو حماسة آخرين يظهرون اللامركزية الإدارية المالية الموسّعة بمظهر المنقذ، من دون أن يحددوا المطلوب إنقاذ ماذا من ماذا؟
يمكن للَّامركزية المالية والإدارية الموسّعة أن تكون الحل. وليس مهماً هنا لماذا اليوم وليس قبل عشر سنوات. لكن المهم أن تُبنى هذه الخلاصة على نقاش منطقيّ ودراسات جدية وأرقام وحوار، لا على انفعالات وهروب متواصل كما هو حاصل اليوم. إلى الوراء أم إلى الأمام؟ لا يمكن الجزم، الأمر رهن بما يمكن تقديمه من أجوبة منطقية مبنية على أرقام ودراسات تحاكي العقل، لا مجرّد شعارات أخرى.