القاهرة | منذ أشهر والكلام يدور في القاهرة حول الجرّافات المتجهة نحو الجبانات التاريخية، أو تلك التي تضمّ رفات أعلام من التاريخ المصري. نجحت الحملات الإعلامية والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، في إنقاذ مقبرة «عميد الأدب العربي» طه حسين (1889 ـــ 1973)، وصمد مدفنه وحيداً بينما تمّت إزالة المدافن المحيطة به. لكن هذه الحملات فشلت في إنقاذ مدفن الكاتب الكبير يحيى حقّي (1905 ـــ 1992) الذي هُدم بالفعل. وسط صراخ هنا ومطالبات هناك، أعلنت الرئاسة المصرية مساء الإثنين أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي أصدر توجيهاً يقضي بإنشاء «مقبرة للخالدين» ستضمّ «رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة في البلاد»، مؤكدةً أنّ «التوجيه جاء انطلاقاً من حرص مصر على تقدير رموزها التاريخية وتراثها العريق على النحو اللائق».

المقابر الإسلامية في القاهرة التاريخية هي ثاني أقدم جبّانات في العالم

لم يحدد البيان الرئاسي المكان المقترح لإقامة المقبرة الجديدة، لكنه اكتفى بالتأكيد على إقامتها في «مكان مناسب»، مشيراً إلى أنّ المقبرة ستضمّ متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، سيتم نقلها من خلال المتخصصين والخبراء، بحيث يشمل المتحف السير الذاتية ومقتنيات المدفونين فيها.
جاء «توجيه» السيسي بعد حالة جدل سيطرت على القاهرة خلال الفترة الماضية، خصوصاً في أوساط المهتمين بالتراث، وأصحاب مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وهي المنطقة التي يجري فيها مشروع تطوير وإنشاء شبكة طرق وكباري بدأ تنفيذه في عام 2020. وأكّدت الحكومة عدم المساس بأي مقبرة أثرية، أو ذات طابع معماري مميز. لكن في عام 2021، أعلنت محافظة القاهرة عن نيّتها إزالة نحو 2700 مقبرة في مناطق «السيدة نفيسة» و«الإمام الشافعي» من أجل المشروع، وبالفعل بدأت بإزالة بعضها، إلا أنها توقفت بعد تصاعد حالة الغضب من أهالي الموتى والمهتمين بالتراث، ثم عادت في أيار (مايو) الماضي لاستكمال تنفيذ الخطة، فهدمت مئات المقابر، يؤكد المهتمون بالتراث أنّ من بينها مقابر شخصيات تاريخية، ومقابر ذات طراز معماري مميز.
وتعارض منظمة اليونيسكو المشروع، خصوصاً أنّها سجلت قبل نحو 40 عاماً، القاهرة التاريخية، ومن ضمنها القرافاتا (مدينة الموتى)، على قائمة التراث العالمي. وكرّرت اليونيسكو في السنوات الأخيرة، شكواها من الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، مهددةً بشطبها من قائمة التراث العالمي، ونقلها إلى قائمة التراث المعرّض للخطر. وتتميز الكثير من المقابر في هذه المنطقة بالقباب التي تعلو كثيراً من المقابر، والوجهات المزخرفة بنقوش إسلامية، وعبارات كتبها خطّاطو العصور السابقة، حتى أبوابها عليها رسومات ونقوش دقيقة تميزها عن غيرها من المقابر. يرى المهندس طارق المري، استشاري الحفاظ على التراث وخبير مركز التراث العالمي في اليونسكو، في حديث مع «الأخبار» أن مقابر الخالدين موجودة بالفعل وفي أماكنها منذ مئات السنين، والأصح هو تغيير مسار الطريق الذي لم ينشأ بعد، مشدداً على أن مقترح إنشاء مقبرة تجمع رفات الشخصيات المهمة في التاريخ المصري، يحتاج إلى مراجعة وتأنٍّ قبل تنفيذه.
ويؤكد المري أن الجبانات الإسلامية في القاهرة التاريخية (قرافات السيدة نفيسة والإمام الشافعي وصحراء المماليك) هي ثاني أقدم جبانات في العالم، تسبقها فقط مدافن البقيع في السعودية. وأشار المري إلى أن هذه المقابر القديمة يمكن بحدّ ذاتها أن تكون مزاراً سياحياً ومصدراً مهمّاً للعملة الصعبة إذا ما اهتمت الدولة بها. وتابع: «لكنّ المقبرة الجديدة مهما عملنا فيها، هي في النهاية مقبرة جديدة ولن تكون بجمال وإبداع المقابر الحالية»، لافتاً إلى أنّ هذه الجبّانات القديمة ما زالت ــ حتى في وضعها الحالي ـــ تستقطب الدارسين للعمارة والفنون خصوصاً الخطوط والنقوش، بالإضافة إلى عدد كبير من الزوّار، وبالتالي مع الاهتمام بها ستتضاعف هذه الأعداد، و«هذا موجود في الكثير من دول العالم. هناك مزارات وجبانات في بريطانيا وفرنسا تشهد إقبالاً كبيراً». ولفت إلى أن هذه المقابر هي جزء أصيل من معالم القاهرة التاريخية، وهو ما يطرح السؤال المهم عن المكان الذي من المقرر أن تنشأ فيه مقبرة الخالدين.
نجحت الحملات الإعلامية في إنقاذ مقبرة طه حسين فيما هُدم قبر يحيى حقّي


وبشأن وجود مقبرة للعظماء في فرنسا، قال المري إنها مقبرة تم إنشاؤها في الأساس لهذا الغرض ودُفن فيها أصحابها وهي قائمة بالفعل، ولم يُنقل رفاتهم إليها كما يجري الحديث الآن. وهناك بعض عظماء فرنسا لم يدفنوا في هذه المقبرة، بل دفنوا في مقابرهم وسط ذويهم وتحوّلت مقابرهم إلى مزارات، بالإضافة إلى أنّ فرنسا تمنح الأسرة الحق في رفض نقل رفات العظماء مثلما حدث مع الفيلسوف والروائي ألبير كامو الذي رفضت أسرته نقله إلى البانتيون، ولم تستطع الدولة إجبارهم على ذلك، بالإضافة إلى أنّ من نقلت رفاتهم إلى مقبرة البانتيون لم تهدم مقبرة ذويهم.
الإشكالية الأخرى التي لم توضحها الحكومة المصرية هو كيفية التعرّف إلى رفات «الخالدين» المدفونة على مدى أربعة عشر قرناً وتضم الأعيان والشخصيات العامة، إلى جانب الكثير من المجهولين. ففي أيار (مايو) الماضي، قادت المصادفة إلى اكتشاف شاهد قبر عليه كتابة بالخط الكوفي غير المنقوط، عُثر عليه داخل قبر قديم، يتجاوز عمره 1170 عاماً. صاحبة القبر هي سيدة عاشت في الفسطاط في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، تُدعى أُمامَة ابنة محمد بن يحيي، وتوفيت في 10 ذي الحجة سنة 229 هجرية (2 أيلول/ سبتمبر سنة 844 ميلادية) ودفنت بالقرب من الإمامين الليث بن سعد ومحمد بن إدريس الشافعي والسيدة نفيسة. وقال مؤسس مبادرة «شواهد مصر» حسام عبد العظيم، الذي اكتشف الشاهد، في تصريح لموقع «المصري اليوم»، إن هذا الشاهد ليس الأول الذي يتم العثور عليه، «إحنا سلمنا قبل كده شواهد قبور أخرى من القرن الـ19 للمجلس الأعلى للآثار بهدف الحفاظ عليها».