حتى السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز للتطوّرات الحاصلة في ميادين مختلفة، على رأسها صناعة الإعلام والسينما. حفلة الجنون التي تقيمها هذه التكنولوجيا الجديدة أرخت بظلالها على كلّ شيء، ودفعت إلى الواجهة بأسئلة وهواجس تتعلّق بمستقبل المهن وطبيعتها. هكذا، شهدت هوليوود في صيف 2023 إضراباً غير مسبوق منذ عام 1960 دام أشهراً، بسبب القفزة التي حصلت في مجال الـ AI، إضافة إلى مشكلات تتعلّق بالرواتب، ما أوقف عجلة صناعة الترفيه. بعد فشلها في التوصّل إلى عقد جديد، انسحبت «نقابة الكتّاب الأميركية» (WGA) من «تحالف منتجي الصور المتحركة والتلفزيون» (AMPTP)، ليبدأ الإضراب الكبير الذي انضم إليه «اتحاد ممثّلي الشاشة الأميركية لفناني التلفزيون والراديو» (SAG-AFTRA). وتمثّلت المشكلات الرئيسية التي يواجهها الكتّاب والممثلون، في خوفهم من استبدالهم بالذكاء الاصطناعي لإنشاء المحتوى، والحد الأدنى لعدد الكتّاب الذين يجب توظيفهم في العروض، ومدة عقود العمل والرواتب الزهيدة التي يتقاضونها من قبل المنتجين. وفي الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، توصّل الممثلون واستوديوات هوليوود الكبرى إلى اتفاق مدّته ثلاث سنوات وتُقدّر قيمته بأكثر من مليار دولار، أنهى الإضراب الذي شلّ القطاع السينمائي والتلفزيوني في الولايات المتحدة لأشهر وكلّف الاقتصاد الأميركي مليارات الدولارات.
(محمد نهاد علم الدين)

غير أنّ هذا «الإنجاز» مرّ مرور الكرام في ظلّ الانقسام الحادّ الذي (لا يزال) يخيّم على عاصمة الترفيه الأميركية تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة. منذ حوالى ثلاثة أشهر، يدفع مشاهير كثيرون ثمن مواقفهم الرافضة للعدوان الصهيوني في وقت لم تعد تنطلي فيه محاولات التضليل والبروباغندا المهترئة التي يبثّها الغرب والكيان على الرأي العام العالمي، لتشهد هوليوود حملة «صيد ساحرات» بكل ما للكلمة من معنى. واقع استدعى حقبةً مظلمة حين أطلق السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي «حملة الخوف» في الخمسينيات، التي اضطهدت عشرات المثقفين والفنانين والكتّاب اليساريين والنقدييّن وهجّرتهم بتهمة التآمر على المصالح الأميركيّة.
شكّلت عملية «طوفان الأقصى» نقطةً مفصليةً على أصعدة مختلفة، أبرزها تعرية انحياز هوليوود إلى الصهيونية تماماً. وأوّل من «عُوقبوا» على مساندتهم للفلسطينيين، كانت النجمة الأميركية الحاصلة على أوسكار سوزان ساراندون التي لم تتوان يوماً عن التعبير عن مواقفها السياسية. وبسبب مشاركتها في تظاهرات في أنحاء مختلفة من بلادها تدعو إلى وقف إطلاق النار وتدعم فلسطين، ألغت وكالة المواهب UTA تعاقدها معها بعد تعاون بدأ في عام 2014. وعلى خطٍّ موازٍ، طُردت الممثلة المكسيكية ميليسا باريرا من الجزء السابع من سلسلة الرعب السينمائية «سكريم» بسبب انتقادها على السوشال ميديا أميركا وإسرائيل ومطالبتها بوقف إطلاق النار في غزّة. وبعد ساعات من استبعاد باريرا التي تجسّد شخصية «سام كاربنتر»، انتشر خبر انسحاب الأميركية الشابة المعروفة بآرائها الرافضة للممارسات الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين، جينا أورتيغا، من الشريط نفسه الذي يُفترض أن تلعب فيه دور «تارا كاربنتر». كما أُجبرت الرئيسة المشاركة لقسم السينما في «وكالة الفنانين المبدعين» (CAA)، الأميركية ــ الليبية مها دخيل، على الاستقالة من مجلس الإدارة بعد منشور انتقدت فيه العدوان الإسرائيلي على غزة، واتهمت الكيان الصهيوني بارتكاب إبادة.
أما الممثّل الإسكتلندي الشهير، براين كوكس، فقرّر التعبير عن وقوفه في صفّ الفلسطينيين في وجه آلة الحرب الصهيونية على طريقته الخاصة، إذ نشرت «احتفالية فلسطين للأدب» على منصّاتها الافتراضية وقناتها على يوتيوب مقطعاً مصوّراً (1:01 د) لكوكس، يقرأ أمام الكاميرا قصيدة If I Must Die (إن كان لا بدّ أن أموت) التي كانت آخر ما نشره بالإنكليزية أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة الإسلامية في غزّة، رفعت العرعير (1979 ـــ 2023)، قبل أن يُستشهد في غارة صهيونية مع أخيه وأخته وأفراد من عائلته.
وعلى الرغم من هذا الواقع الذي أثار قلق المدافعين عن حرية التعبير في الولايات المتحدة عموماً وهوليوود خصوصاً، استمرّت مروحة واسعة من الفنانين في إعلاء الصوت ضدّ ما يحدث، منهم: برادلي كوبر، وألفونسو كوارون، وسيلينا غوميز، وجانيل موناي، ولوبيتا نيونغو، وجينا أورتيجا، وخواكين فينيكس، ومارك رافالو، ومارك رايلانس الذين كانوا من بين أكثر من 260 شخصاً وقّعوا على رسالة مفتوحة تحثّ جو بايدن والكونغرس على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، من دون أن ننسى طبعاً الممثلة الأميركية سينثيا نيكسون التي انضمّت في نهاية تشرين الثاني الماضي إلى إضرابٍ عن الطعام أمام البيت الأبيض، لمطالبة الرئيس الأميركي جو بايدن بتحويل الهدنة في غزة إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع.
على ضفّة أخرى لا تبعد ولا تختلف كثيراً عن هوليوود، أثبتت ذراع البروباغندا التابعة لآلة الحرب الصهيونية فشلها في معركة الرأي العام العالمي، واستدراج الاستعطاف لمصلحة كيان الاحتلال. ومع توالي أيّام حرب التطهير العرقي، كشفت عن ترهّلها الكبير وبدائيتها في نسج الأكاذيب والتضليل والشائعات التي غالباً ما وصلت إلى حدود الرداءة والسخافة، وشكّلت مادة للسخرية والتندّر على السوشال ميديا. كلّنا نذكر مزاعم قطع المقاومين الفلسطينيين لرؤوس 40 طفلاً، واتهام «حماس» بـ «اغتصاب» إسرائيليات، ناهيك بأكذوبة غرفة عمليّات «حماس» تحت «مستشفى الشفاء» التي فضحها جيش الاحتلال بفيديواته التي حوّلته إلى أضحوكة. هذه النماذج وغيرها من الأكاذيب التي تندرج ضمن الدعاية الحربية، انبرى الإعلام الغربي المتأسرل للترويج لها وأعاد نشرها على مدار الساعة على الشاشات والمنصات المنوّعة، ما انعكس تخبّطاً ملموساً في أدائه ونسف صورة مؤسسات كثيرة كان لا يزال هناك مَن يصدّق شعاراتها الفارغة حول «الموضوعية» و«الحقيقة» و«حرية الرأي والتعبير». ومن المنابر الإعلامية التي تصدّرت هذا المشهد طبعاً: «سي أن أن»، و«فوكس نيوز»، و«نيويورك بوست»، و«نيويورك تايمز»، و«هيئة الإذاعة البريطانية»، و«سي أن بي سي»... فضلاً عن أبواق صهيونية معروفة كالبريطاني بيرس مورغان والبريطانية ــ الإيرانية كريستيان أمانبور، اللذين حرصا على طرح السؤال الشهير على كل ضيوفهم المساندين للفلسطينيين: «هل تدين ما فعلته «خماس» بإسرائيل والمدنيين الإسرائيليين؟».
وفي الوقت الذي كان العدو يكتم فيه أصوات الإعلاميين في الأراضي المحتلة وجنوب لبنان لكمّ الأفواه والتعتيم على جرائمه، تعرّى الإعلام الغربي كلياً مع محاولاته إسكات كلّ شخص ينطق بالحقيقة. هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ «بي بي سي» التي طردت موظفين يعملون لديها بسبب تأييدهم لفلسطين، شهدت استقالات على خلفية نشرها خلال العدوان تقريراً يزعم أنّ «حماس» تبني أنفاقاً تحت المستشفيات والمدارس، ممهدةً بالتالي لمجزرة «مستشفى المعمداني». ولم تتوان المحطة عن وصف المتظاهرين المناصرين لفلسطين في لندن بأنّهم «موالون لحماس»، فضلاً عن دخول مراسلتها لوسي ويليامسون مع قوات الاحتلال إلى داخل مجمّع «الشفاء» الطبّي.
وعلى خطٍ موازٍ، طُردت الصحافية الفلسطينية ــ الكندية، زهراء الأخرس من موقع Global News الإخباري بسبب منشوراتها الافتراضية المساندة لبلدها الأم. وفي محطة CTV News الإخبارية الكندية، أقيلت الصحافية الفلسطينية ــ الكندية، يارا جمال، من عملها بعدما أدلت بتعليق حول فلسطين في تظاهرة احتجاجية ضد جرائم العدو، أقيمت في تورونتو في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. وكما في الصحافة البريطانية والكندية، سجّلت الميديا الأميركية حالات عدّة، تمثّلت إحداها في أداء MSNBC التي دائماً ما ضيّقت الخناق على إعلاميّيها المناصرين للقضية الفلسطينية. على سبيل المثال، أعلنت الشبكة في نهاية شهر تشرين الثاني 2023 عن توقيف برنامج «ذا مهدي حسن شو» على منصة البثّ التدفّقي التابعة لها «بيكوك»، الذي يقدّمه الصحافي الأميركي ــ البريطاني من أصول هندية مهدي حسن. جاء ذلك بعدما برع حسن بأسلوبه المميز في إجراء المقابلات، كاشفاً عن زيف الادعاءات الإسرائيلية لعدوانها الإجرامي.