عندما تواصلت الصحافية في «ميامي هيرالد»، جولي براون، مع رئيس الشرطة السابق في بالم بيتش في ولاية فلوريدا عام 2017، على أمل إقناعه بالحديث عن تحقيقه الذي استمر عشر سنوات في الجرائم الجنسية ضدّ الأطفال التي سُجن بسببها المموّل والملياردير الأميركي جيفري إبستين (1953 ــ 2019)، فوجئت بمدى عدم استجابته. أخبر مايكل رايتر براون أنّه سبق أن سلك هذا الطريق مراراً وقد سئم منه، إذ تحدّث إلى عدد كبير من الصحافيين وأخبرهم على وجه التحديد بالعثور على أدلة دامغة ضد إبستين، لكن بلا طائل. رايتر الذي كان مقتنعاً بأنّ غالبية وسائل الإعلام سحقت القصة وتعمّدت قتلتها في مهدها، حذّر الصحافية مما سيحدث إذا واصلت البحث: «سيتصل شخص ما بناشر الصحيفة التي تعملين لحسابها، قبل تعيينك في قسم الوفيات». غير أنّها لم تأبه لكلامه وواصلت العمل وأقنعت مايكل في النهاية بالتصريح لها، تمهيداً للإفراج عن تحقيقها المؤلّف من ثلاثة أجزاء والحائز جوائز عدّة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 عن عملية واسعة النطاق شهدت الكشف عن 80 ضحية محتملة، بعضهنّ لا تتجاوز أعمارهن 13 عاماً حين تعرّضن للاعتداء، وقد أقنعت الصحافية ثمانيَ منهنّ برواية قصصهنّ. فضحت براون حينها التواطؤ الذي منح إبستين حكماً مخفّفاً جعله يقضي 13 شهراً فقط في السجن (من أصل 18) ويخرج في 2009. اكتشفت أنّ المدعي العام الفيدرالي الأعلى في ميامي آنذاك، ألكسندر أكوستا تفاوض سراً على «اتفاقية عدم الملاحقة القضائية» في عام 2008، ما منح إبستين والمتآمرين معه حصانة من الملاحقة الفيدرالية.
(جين روزنبيرغ ــ رويترز)


(غاري فارفيل ــ الولايات المتحدة)

تعامل وسائل الإعلام ــ أو سوء تعاملها ــ مع قضية إبستين قصة بجانبَيْن متناقضَيْن. من جهة، هي قصة لافتة عن كيفية اختراق مراسلة جريئة حجاب السرية والكشف عن الحقيقة، ليُلقى بعدها القبض على إبستين مجدداً وتوجّه إليه اتهامات جديدة بالإتجار بالجنس من المدعين العامين في نيويورك الذين أشادوا بعمل الصحافية. علماً أنّه في أعقاب التداعيات، اضطر أكوستا إلى الاستقالة. لكن هناك جانب مظلم للحكاية سبق ذلك بكثير: لماذا لم تجد مناشدات قائد الشرطة لوسائل الإعلام آذاناً مصغية؟ لماذا مرّ كلّ هذا الوقت قبل أن تكشف صحيفة محلية ذات موارد محدودة حجم جرائم إبستين وصفقته مع أكوستا؟
في الواقع، يرتبط هذان الشقّان ارتباطاً مباشراً. في تصريحات سابقة لشركة WNYC الإعلامية، قالت براون إنّ أحد الأسباب التي دفعتها إلى مباشرة البحث عن إبستين هو أنّها كانت حائرة إزاء الصمت العام المحيط بهذا الرجل. يمتد هذا الصمت إلى عام 2003، عندما كتبت فيكي وارد مقالاً أشبه ببورتريه عن إبستين لمصلحة مجلة «فانيتي فير». في سياق العمل على تقريرها، تعرّفت إلى أم وابنتيها من مدينة فينيكس في ولاية أريزونا، زعمن يومها أنّ إبستين اعتدى على الشقيقتين حين كانت إحداهنّ في الـ 16 من عمرها. أمضت براون حينها الكثير من الوقت مع العائلة في مناقشة ما إذا كان ينبغي لهنّ الكشف عمّا جرى على الملأ، وفقاً لما صرّحت به لصحيفة «ذا غارديان» البريطانية.
بعد مدة من التردّد، قبلت الفتاتان (آني وماريا فارمر) نشر شهادتيهما بأسمائهما الحقيقية. وعندما علم إبستين برواياتهما، عمد إلى تهديد الصحافية بإيذاء توأمها اللذين لم يولدا بعد، ثم نجح في منع «فانيتي فير» من نشر المادة كما هي، بعد زيارة مفاجئة إلى مكتب رئيس التحرير آنذاك، غرايدون كارتر. هكذا، أبصر النصّ النور بصيغة منقوصة بعد حذف الفقرات المتعلقة بإساءة معاملة النساء. ويُحكى أنّ كارتر تلقى رسائل تهديد، من ضمنها رصاصة ورأس قطة مقطوع أمام باب منزله.
بعد خروج جيفري من السجن عام 2009، برزت مقالات تصفه بأنه «فاعل خير غير أناني ومهتمّ بالعلوم»، على مواقع مثل «فوربس» و«ناشيونال ريفيو» و«هافينغتون بوست».
على سبيل المثال، أشارت «فوربس» في عام 2013 إليه باعتباره «أحد أكبر داعمي العلوم المتطورة حول العالم»، من دون ذكر ماضيه الإجرامي. ووصفه مقال «ناشيونال ريفيو» في العام نفسه بأنه «رجل أعمال ذكي ذو شغف بالعلوم المتطورة». أما مقال «هافينغتون بوست» في 2017، فنسب إليه الفضل في «اتخاذ إجراءات لمساعدة عدد من العلماء على النجاح في «عصر ترامب»، وهو وقت السياسات المناهضة للعلم وتخفيضات الميزانية». علماً أنّ المقالات الثلاث حُذفت في عام 2019 بعد عودة إبستين إلى السجن، بطلب من صحيفة «نيويورك تايمز».
يمكن وضع مقالات المديح المخصّصة لإبستين في سياق نموذج النشر عبر الإنترنت الذي تبنته بعض المؤسسات الإخبارية منذ زمن، والمعتمد على المتعاونين الذين غالباً ما يكتبون مقابل أجر زهيد أو مجاناً، مع مساهمة قليلة أو معدومة من قبل المحرّرين. في الوقت الذي نُسب فيه مقال «فوربس» إلى الكاتب المتعاون درو هندريكس، كشفت صحيفة «ذا تايمز» إنّه لم يكن حقاً المؤلّف، إذ تسلّم النص من شركة علاقات عامة حصل منها على 600 دولار أميركي لإدراجه ضمن نصوصه ونشره على موقع Forbes.com. في هذا الإطار، قال ديمون كيسو، من كلية الصحافة في «جامعة ميسوري»، إنّ الاستخدام المكثف للمساهمين الخارجيين كان مربحاً، لكنه جاء مصحوباً بمخاطر على اسم «فوربس»: «تبدّلت سمعتها من كونها مطبوعة تجارية محترمة إلى مزرعة محتوى».
وفي سياق متصل، نُسب مقال «ناشيونال ريفيو» إلى كريستينا غالبريث التي تعرّف عن نفسها بأنّها كاتبة متخصّصة في العلوم متعاونة مع «فوربس» و«هافينغتون بوست». لكن اللافت أنّ غالبريث التي أكّدت أنّ جيفري «قدّم تبرعات مدروسة لعدد لا يحصى من المنظمات التي تساعد في تعليم الأطفال المحرومين» كانت حينذاك أيضاً مسؤولة دعاية لدى إبستين، وفقاً للعديد من النشرات الإخبارية التي تروّج لمؤسساته ومبادراته في الأعوام 2012 و2013 و2014. وفي أيلول (سبتمبر) 2019، نشرت مجلة «نيويوركر» تقريراً يكشف أنّ مساهمات إبستين المالية في M.I.T. Media Lab، وهو مختبر أبحاث تابع لكلية العمارة في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» لا تقتصر على التخصّصات الأكاديمية الثابتة لكنها تشمل التكنولوجيا والإعلام والعلوم والفن والتصميم، تتجاوز بأشواط المبالغ التي أفصح عنها MIT. مثال ساطع آخر على ذلك يتمثّل في شهادة الناجية فيرجينيا روبرتس جوفري (التي ارتبط اسمها بالأمير البريطاني آندرو) التي رفعت عام 2009 دعوى قضائية ضد إبستين واتهمت رفيقته غيلين ماكسويل بتجنيدها لتعيش حياة ملؤها الإتجار الجنسي عندما كانت قاصراً، قبل أن تتمكّن من «الهروب بعد سنوات». في عام 2015، أجرى معها فريق من شبكة ABC News الأميركية (مؤلّف من آيمي روباك وجيم هيل) مقابلة مسجّلة تمحورت حول جيفري ودوائره المغلقة. في ذلك الحين، شكّل اللقاء بنظر فيرجينيا «فرصة لتغيير محتمل لقواعد اللعبة»، كونه على قناة واسعة الانتشار. غير أنّ صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية نقلت أنّ أحد موظفي ABC News المطلعين على مجريات الأمور، أوضح أنّ الشبكة تلقت مكالمة هاتفية من أحد كبار محامي إبستين، وهو أستاذ القانون الفخري في «جامعة هارفارد» آلن ديرشوفيتز، أفضت في نهاية المطاف إلى عدم عرض المقابلة.
يُحكى أنّ رئيس تحرير «فانيتي فير» وجد رصاصة ورأس قطة مقطوعاً في منزله


لكن يسود اعتقاد في الأوساط الإعلامية أنّ أداء مؤسسات عدّة تغيّر اعتباراً من عام 2017، بعد بروز حركة MeToo# (#أنا_أيضاً) المناهضة للتحرّش الجنسي. تبدّل تُرجم في طريقة تعاطي الميديا المهيمنة مع حالات مشابهة، كما حدث مثلاً حين أجريت مقابلات مع ضحايا كثيرات للمنتج الهوليوودي الشهير هارفي واينستين. لا شكّ في أنّ علاقة جيفري ابستين بغيلين ماكسويل التي بدأت في عام 1990 في أعقاب وفاة والدها قطب الإعلام البريطاني روبرت ماكسويل، شكّلت دعامة أساسية للمموّل في «المجتمع المخملي» في لندن ونيويورك، وبطاقة عبور له إلى دوائر لم يكن بإمكانه ولوجها بسهولة بمفرده، وخصوصاً تلك التي تعجّ بحيتان المال والأعمال والميديا والفنّ وغيرها من المجالات. وفي صيف 2022، حُكم عليها بالسجن لمدة 20 عاماً في تهم تجنيد الفتيات القاصرات والإتجار بهنّ وتعريضهنّ للاعتداء الجنسي من قبل إبستين، ليُسدل الستار على أحد أكثر فصول سقوطها درامية في ختام محاكمة كبيرة شوهدت في جميع أنحاء العالم وكشفت بعضاً من أعمق أسرارها وجرائمها الفظيعة، بعدما بقيت لسنوات طويلة شخصية مثيرة للتساؤلات والريبة والاهتمام في الوقت نفسها.
زمرة من المحامين الذين يبثّون الرعب أينما حلّوا، والاعتماد على الكاريزما والسحر والهالة التي لا تقهر، إضافة إلى تبرّعات بمبالغ من خمسة أرقام إلى منظمات غير حكومية مفضّلة لدى مراسلين صحافيين ومؤسسات إعلامية بارزة، ورسائل تهديد بأسلوب المافيا... هذا بعض من الأدوات الأساسية التي دائماً ما لجأ إليها إبستين في إطار سعيه إلى تخفيف التغطية الإخبارية ولجم الصحافيين الراغبين في البحث في أفعاله المريضة والمشينة، وفقاً لما رأت NPR.