إذا وضعنا جانباً لغة الحروب والأشكال الجديدة من الاستعمار والاستثمار فيها، يعتبر مفهوم «الذكاء الاصطناعي» التعبير الأكثر تداولاً خلال عام 2023. الأكثر تداولاً من ناحية الرهان المستقبلي على مفاعيله التغييرية والثورية، أو من ناحية التخوف من سيطرته، أو من ناحية التخوف من خروجه عن السيطرة، أو من ناحية الصراعات الجديدة التي سيتسبّب بها، أو من ناحية تضليله المعرفي من كثرة المعلومات التي يقدمها…قيل عنه إنّه «المنقذ» من الناحية البيئية، إلا أنّه في حال نجاحه وانتشاره يمكن أن يتسبب بزيادة المشكلات العالمية الجديدة أيضاً. صحيح أنّ هذا المفهوم ظهر في الخمسينيات، إلا أنه لم يأخذ كل هذه الضجة إلا بعد ظهور أول تطبيقاته نهاية العام الماضي. وقد ظهرت تأثيراته القوية في معظم القطاعات الأساسية في الحياة العصرية، من قطاع التعليم إلى الإعلام إلى القطاعات الاقتصادية المختلفة إلى الجانب الطبي، ولا سيما لناحية الاستشارات السريعة، إلى الجانب الحقوقي والقانوني…
كما ظهرت تأثيرات الذكاء الاصطناعي بوصفه آلية إلكترونية تساعد سريعاً على استرجاع بيانات قديمة واستخلاص نتائج سريعة وذكية، يمكن أن تساعد في تقدير حال الطقس ومساعدة المزارعين، كما يمكن أن يشكّل إحدى آليات الإنذار المبكر ويساعد على تجنب الكوارث البيئية والمناخية والاحتياط منها، أو يسهم في إعطاء المعلومات المطلوبة لوضع السياسات السليمة، ولا سيما الاستباقية منها.
هذا التقييم البيئي الإيجابي للذكاء الاصطناعي، قابله تخوّف وتردد عند كثيرين وجدو فيه نوعاً من التعمية على الكوارث التي تحصل، ومنح المتضررين منها المزيد من الأوهام من أن هذا النوع من التكنولوجيا الجديدة يمكن أن يعالج الكوارث التي تسبّب بها تطور أنواع أخرى من التكنولوجيا، وأنّ لا حل للمشكلات التقنية حول العالم إلا باللجوء إلى تقنيات جديدة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ الرأي الآخر المتحفّظ ظل يقول إنّ التنبؤ بحصول كوارث لا يعني الحد منها، ومساعدة الذكاء الاصطناعي في رصد نسب تلوث الهواء، لا يخفف منه ولا من آثاره الصحية القاتلة. كما أنّ رصد حرائق الغابات لا يخفف من حدتها وتوسّعها، وخصوصاً عندما ترتفع درجات حرارة الأرض أكثر من درجة ونصف الدرجة ودرجتين. كما أنّ قياس سرعة ذوبان الجليد والفيضانات لن يحول دون تسبّبها بكوارث تتصاعد حدتها وكلفتها سنة بعد أخرى وكارثة بعد أخرى. صحيح أنّه يمكن أن يحدّ من بعض الخسائر البشرية بدايةً، ولكن على المدى البعيد، وبعد أن تزداد وتيرة الكوارث، كما هو واضح الآن، ستكون قوة هذه الكوارث أكثر تدميراً. ثم إنّ تطور استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته واستخدام محركات البحث عشرات مليارات المرات يومياً حول العالم ستؤدي إلى استهلاك المزيد من الطاقة والتسبّب بزيادة الانبعاثات العالمية المقدرة نسبتها حالياً بأكثر من 4% من الانبعاثات العالمية. وإذا عرفنا أن هناك أكثر من ثلاثة مليارات شخص أو 45% من سكان الأرض لا يزالون غير موصولين بشبكات الإنترنت، وأنّهم في طريقهم إلى الاتصال… يفترض أن نتوقع أيضاً أن يزداد الطلب على التربة النادرة التي تصنع منها هذه التقنية مع زيادة الطلب على الطاقة من أجل تشغيل وتبريد الخوادم. مع العلم أيضاً أن نظام الذكاء الاصطناعي ينتج خمسة أضعاف انبعاثات سيارة مدى عمرها، وفي حال تضاعف عدد المستخدمين، ستتضاعف انبعاثات هذا «الذكاء» لتشكل 8% من الانبعاثات العالمية.
إدارة سيطرة جديدة تتنافس عليها الدول الصناعية الكبرى


الذكاء الاصطناعي سيغيّر من طبيعة العمل والعلاقات الاجتماعية والقواعد الأخلاقية وأنظمة التعليم والصناعة والأسواق... وقد تزامنت سرعة انتشار التطبيقات مع تخوفات من الخروج عن السيطرة وضرورة مراقبة هذا الذكاء ووضع ضوابط تشريعية وقانونية عليه. وإذ بدأ الكونغرس الأميركي فعلاً بنقاش أنواع الرقابة التي يفترض أن تُفرض، حذّرت أصوات أخرى من أن تؤدي هذه الضوابط إلى إبطاء التقدم، ومنح الصين التي لا تهتم بهكذا أنواع من المشكلات، فرصة ثمينة للتقدم أكثر على الولايات المتحدة في هذا المجال. مع العلم أنّ ظروف التنافس والسرية بين الدول الصناعية الكبرى يحول دون وضع قواعد وضوابط عالمية لهذا النوع من «التقدم»، وغيره من المخاطر المؤثرة على استمرارية الحياة. أمّا حول الأساطير التي بدأت تنسج حول هذا الذكاء على مستوى المعرفة، فإن هؤلاء التقنيين لم يستعينوا بعد بفلاسفة العصر لكي يعرفوا أن كثرة المعلومات لا تنتج معرفة. الذكاء الاصطناعي لا يحل مكان التفكير، ولا يمكن أن يتمتع بديناميكية التفكير الإنساني. استرجاع الكم الهائل من الأرقام والأفكار والمعلومات والبيانات لا يغني عن التفكير، وهناك دائماً معطيات وتحولات جديدة تحتاج إلى إعادة تفكير، تبقى من خاصية العقل البشري. الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يفكر بصيرورة الأشياء. هو يستطيع أن يتعامل مع الموجود وغير الموجود من معطيات قديمة، أما ما تحول وصار بعدما كان، فأمر لا يفكر فيه إلا فكر الإنسان وذكاؤه الطبيعي والديناميكي. وهو درس أوّلي تعلمه الإنسان من الطبيعة وصيروراتها وأنظمتها الإيكولوجية والحيوية المتداخلة والمتفاعلة والمعقّدة.
انطلاقاً من كل ذلك، لا يمكن الرهان على الذكاء الاصطناعي، بحسب اتجاهات تطوره، لإنقاذ الكوكب (في المرحلة القادمة) ممّا تسببت به التكنولوجيا القديمة بوصفها أداة سيطرة وظفتها قوى السوق للسيطرة على الموارد والشعوب والأسواق، بكون الذكاء الاصطناعي إدارة سيطرة جديدة، تتنافس عليها الدول الصناعية الكبرى أيضاً.