يُلاحظ في الآونة الأخيرة أنّ عمالقة التكنولوجيا يتّبعون سلوكاً يبدو «انتقامياً» تجاه وسائل الإعلام، ولا سيما قرار شركة ميتا العام الماضي، بتقليص ظهور الأخبار على فايسبوك، إضافة إلى إلغاء خدمة أخبار فايسبوك والمقالات الفورية في أوروبا. أمر أدى إلى ضرب نسبة حركة مرور المستخدمين على المواقع الإلكترونية الإخبارية، بعدما اعتمدت الأخيرة على ذلك النموذج لتحصيل مردود من الإعلانات الرقمية. كما أجهض مخططاً لتمويل الصحافة المحلية في المملكة المتحدة. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، تُمثل خطط آبل بحظر الإعلانات عبر أداتها الجديدة web eraser (رغم حسن نيتها بحجة خصوصية المستخدم) خطوةً في السلوك العدائي نفسه، وتضغط على وسائل الإعلام من ناحية التمويل، كما تفرض حالة أمر واقع تتحكم بما يمكن للمستخدمين رؤيته والوصول إليه من أخبار ومعلومات.
رسم عبر أدوات الذكاء الاصطناعي (بينغ إيمج كريياتور)

أثارت «رابطة وسائل الإعلام الإخبارية البريطانية» (NMA)، التي تمثل أكثر من 900 مطبوعة محلية وإقليمية، مخاوف جدية من أنّ خطوة آبل قد تهدّد المردود المالي لصناعة الصحافة، وتزيد سلطة شركات التكنولوجيا الكبرى وهيمنتها التقنية على تدفقات المعلومات الرقمية. وبعثت الرابطة رسالة إلى آبل في المملكة المتحدة، الأسبوع الماضي، جاء فيها أن «الصحافة الاحترافية تتطلب التمويل، والإعلان هو مصدر دخل رئيسي لعدد من الناشرين»، مضيفة أن حظر الإعلانات عبر الإنترنت «أداة فظة تحبط قدرة منشئي المحتوى على تمويل عملهم بشكل مستقر». وقالت المجموعات الإعلامية إنّ منصات الإنترنت مثل متصفحات الويب (غوغل كروم وسفاري...) تتيح وصول الجمهور إلى الصحافة، إلا أنها توفر أيضاً قنوات مهمة للناشرين «لتحقيق الدخل من محتواهم في السوق الرقمية» عبر الإعلانات. ويمكن لأداة حظر الإعلانات التلقائية من آبل أن تخنق مصدر الإيرادات الحيوي. وبعيداً من الآثار المالية، أثارت NMA المخاوف من عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد يُسمح لها بتغيير أو إزالة أجزاء من المقالات بشكل انتقائي.
تركُّز بيانات المستخدمين حول العالم داخل مراكز بيانات عمالقة التكنولوجيا، ألفابت (الشركة الأم لغوغل) وأمازون وميتا ومايكروسوفت وآبل، طوال العقود الماضية، جعل تلك الشركات بمثابة حارسة بوابة الإنترنت، بمعنى أن دخولنا إلى الويب وتصفحنا محتواه، يجري عبرها. وبالتالي صار المحتوى الذي يظهر أمام المستخدمين حول العالم، تقرّره خوارزميات تلك الشركات بناءً على البيانات التي جمعتها يوماً تلو آخر من محتوى المستخدمين، ومن دون أن تدفع لهم مقابل ذلك. ولأن الأنظمة النيوليبرالية التي ينتمي إليها القيّمون على شركات التكنولوجيا، تفضّل حملة الأسهم على المستخدمين، مارست تلك الشركات توسعاً غير مسبوق عبر ضرب المنافسة إما عبر شراء الشركات الناشئة وقتلها أو عبر كسرها من خلال لعبة السوق. في كل الأحوال، انتهى المطاف بشكل جديد من الإقطاع يُطلق عليه الاقتصادي اليوناني البارز ووزير المالية السابق، يانيس فاروفاكيس، بـ«الإقطاع التكنولوجي»، وهو عنوان كتابه «الإقطاع التكنولوجي: ما قتل الرأسمالية» (2023)، الذي شرح فيه كيف صار العالم في ظل نظام اقتصادي جديد تتركز فيه السلطة والثروة في أيدي عدد قليل من شركات التكنولوجيا الكبرى، ما يذكرنا بالإقطاعية. ويعمل عمالقة التكنولوجيا في هذا النظام، بما في ذلك أمازون، وغوغل، وميتا، وآبل ومايكروسوفت كأسياد العصر الحديث، فيسيطرون على كميات هائلة من البيانات ويمارسون نفوذاً كبيراً على الاقتصادات والمجتمعات. وعلى عكس الرأسمالية التقليدية، التي تعتمد على إنتاج السلع، فإن الإقطاع التكنولوجي يولّد الثروة في المقام الأول عبر استخراج البيانات والخدمات الرقمية، ما يؤدي إلى قوة اقتصادية واجتماعية هائلة لهذه الشركات. ويشدّد فاروفاكيس على قضايا رئيسية مثل تركز السلطة، ورأسمالية المراقبة، وتزايد عدم المساواة الاقتصادية، والممارسات الاحتكارية، التي تقوض المنافسة في السوق والعمليات الديموقراطية. ويدعو إلى إصلاحات تنظيمية، وحماية أقوى للبيانات، وسياسات تهدف إلى إضفاء اللامركزية لبناء اقتصاد رقمي أكثر إنصافاً وديموقراطية، مشدداً على الحاجة إلى نماذج اقتصادية جديدة تعطي الأولوية لرفاهية الإنسان على أرباح الشركات.
قد يُسمح لأداة آبل تغيير أو إزالة أجزاء من المقالات بشكل انتقائي


يواصل الاتحاد الأوروبي منذ سنوات فرض غرامات مالية بمليارات الدولارات على عمالقة التكنولوجيا، إلا أنه لا يمكن اعتبار ذلك التوجه تماهياً كاملاً مع رؤية فاروفاكيس لما يجب فعله من أجل تقليم مخالب تلك الشركات. ويذهب مفهوم «الإقطاع التكنولوجي» الأساسي الخاص به أبعد من ذلك بكثير، إذ يرى أن إجراءات الاتحاد الأوروبي غير كافية، ويدعو إلى منح أصحاب المصلحة مثل العمال والمستخدمين والمجتمعات حصة ملكية مباشرة وصوتاً حاكماً في منصات التكنولوجيا. ويرى أنّ قوانين مكافحة الاحتكار الحالية تحافظ على اختلال توازن القوى بين «أباطرة التكنولوجيا» الذين يسيطرون على البيانات/ المنصات وبقية المجتمع، وأن الغرامات لا تعيد توزيع هذه السلطة، بل يراها علاجاً غير كافٍ، ويصفها بأنها ضريبة يمكن لشركات التكنولوجيا الكبرى دفعها بسهولة مع الحفاظ على نماذج أعمالها. بكلمات أخرى، يرى فاروفاكيس أن الغرامات خطوة نحو الاعتراف بهيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على السوق، وينظر إليها على أنها حلول ترقيعية بدلاً من إعادة ترتيب أكثر جذرية للملكية والسيطرة التي يتصورها في إطاره التكنولوجي الإقطاعي.
ومع ذلك، من وجهة نظر الإقطاع التكنولوجي، فإن احتجاجات الناشرين في بريطانيا، تبدو مجرد صرخات في وجه الإقطاعيات الرقمية. وبعد اعتماد شركات التكنولوجيا على المحتوى الإخباري لتوسيع رقعة مستخدميها وإغناء المحتوى الموجود عليها ذات يوم، صارت هي الآمر الناهي بكيفية عرض الصحافة محتواها.