تونس | وصل المسار التصعيدي الذي تعتمده حركة «النهضة» وحلفاؤها في إطار «جبهة الخلاص»، إلى منعرج تأمل أن يكون حاسماً في مواجهتها المستمرّة مع الرئيس قيس سعيد، الذي اعتمد حيالها سياسة الإنهاك عبر الإيقافات والإيداع في السجون، على خلفية ما يُعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة». وأعلنت «النهضة»، في ندوة صحافية أخيراً، تنفيذ قياداتها إضراباً عن الطعام واعتصاماً مفتوحاً للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وذلك بعد مضي عشرة أيام على دخول القيادي في «جبهة الخلاص»، جوهر بن مبارك، إضراباً مفتوحاً عن الطعام في إطار ما سمّاها «معركة الأمعاء الخاوية»، والتي التحق بها أيضاً كلّ من رئيس «النهضة»، راشد الغنوشي، والقيادي السابق فيها، عبد الحميد الجلاصي، والأمين العام لـ«الحزب الجمهوري»، عصام الشابي، والأمين العام السابق لـ«التيار الديموقراطي»، غازي الشواشي. وشاركت عائلات المعتقلين السياسيين في الإضراب والاعتصام المفتوح، ناشرةً رسالة بعث بها أبناؤها من السجن، وفيها يؤكدون أن الإضراب سيتواصل إلى غاية إصدار قرارات الإفراج عنهم، محمّلين سعيد تبعات تعنّته في مواصلة احتجازهم في ظلّ تقدّم بطيء جدّاً في التحقيقات القضائية التي لم تثبت حتى الآن أياً من التهم المنسوبة إليهم. واعتبرت العائلات تواصل احتجاز أبنائها «انتهاكاً صريحاً للحق في المحاكمة العادلة وحق الدفاع»، ولا سيما مع استمرار التضييق على محامي الدفاع عنهم، وآخر وجوهه دعوة المحاميتَين، إسلام حمزة ودليلة مصدق، إلى التحقيق، بعد إصرارهما على الالتزام بالقانون والمواثيق الدولية في ضمان حق الدفاع للمعتقلين السياسيين. كذلك، أعلنت «النهضة» تقديمها شكوى إلى «المحكمة الجنائية الدولية» ضدّ سعيد حول ما اعتبرته «جرائم ضدّ الإنسانية».
وجرى إعلان البدء في الاعتصام المفتوح من مقرّ «الحزب الديموقراطي التقدمي»، في استعادة لمشهد تحالف 18 تشرين الأول 2008، الذي انطلق بإعلان «إضراب جوع» شاركت فيه قيادات من «النهضة» و«الديموقراطي التقدمي» وحزب «العمال» (الشيوعي سابقاً)، احتجاجاً على الواقع الحقوقي والسياسي في البلاد آنذاك، ولمطالبة الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، بالقيام بإصلاحات سياسية جذرية قبل عام من انتخابات 2009. وعلى رغم انقلاب «النهضة» على شركائها في تلك اللحظة التاريخية، منذ صعودها إلى السلطة، فهي تركّز اليوم على استحضار المشهدية المُشار إليها، لما في ذلك - من وجهة نظرها - من رسالة قوية إلى سعيد مفادها تشابه نظام حكمه مع نظام ابن علي في خنق الحريات وقمع المعارضة.
لكنّ المفارقة أن إضراب 2008 شكّل حدثاً مزلزلاً للنظام بعد أن التفّت الأوساط السياسية المعارضة والحقوقية والنقابية حوله، ووصل صداه إلى المجتمع الحقوقي في جنيف وأحرج ابن علي أمام حلفائه، فيما إضراب اليوم لم يلقَ دعماً واسعاً إلّا في الأوساط «النهضوية». أمّا «الاتحاد العام التونسي للشغل»، فلم يصدر موقفاً داعماً لهذه التحركات، خاصة بعد أن ازداد التوتّر بينه وبين «جبهة الخلاص» إثر اتهامها قياداته بمهادنة السلطة وتجاهل تدهور الوضع السياسي، وهو ما ردّت عليه قيادات «الاتحاد» بأنها لن تسمح باستغلالها لتسجيل نقاط سياسية. ولكنّ الأحزاب الديموقراطية الوسطية والمكوّنات اليسارية التي تشارك في الإضراب أو تدعمه، تعتبر مسألة مساندته مفروغاً منها، انطلاقاً من «المبدئية» في التعاطي مع ما يُعرف بملفّ «المعتقلين السياسيين»، وبصرف النظر عن الأطراف المستفيدة من نجاح التحرك.
بالنتيجة، تُراهن «النهضة»، التي اختارت توقيت الإضراب عشية الانتخابات المحلية، وقبيل سنة من إجراء الانتخابات الرئاسية، على أن يرغم تحرّكها سعيد على فتح قنوات تفاوض معها؛ على اعتبار أنه لا يمكن لنظامه تحمّل تبعات إضراب شخصيات سياسية بلغت من السنّ عتياً على غرار الغنوشي أو نائب رئيس «النهضة»، علي العريض، أو غيرهما، أو أن يسمح بأن يكون للحركة «شهداء» في عهده تبني بهم سردية نضالية جديدة شبيهة بتلك التي اكتسحت بها البرلمان في انتخابات عام 2011 وما تلاه. وفي مقدّمة النقاط المطروحة للتفاوض، إذا ما استجاب الرئيس لدعوات الحوار منعاً لنتائج وخيمة لإضراب الجوع، إطلاق سراح الموقوفين السياسيين، وإرجاء الانتخابات المحلية، والتفاوض حول ترتيبات الانتخابات الرئاسية المقبلة. إلّا أن سعيد لا يبدو، بعد قرابة الأسبوعين من دخول ابن مبارك والغنوشي وغيرهما في الإضراب، وانطلاق التحركات الاحتجاجية الضاغطة من قِبل عائلاتهم، على استعداد للتفاوض، إذ أظهر، كعادته، تجاهلاً لما يجري، لا بل عمد إلى محاولة حرف الأنظار عبر اعتقال رئيسة «الحزب الدستوري»، عبير موسي، التي استأثرت باهتمام الرأي العام، فيما تؤكد «الخلاص» أنها لم تتلقّ حتى اللحظة أيّ ردّ من السلطة على مبادرتها.