تونس | انطلقت، أمس، الجولة الثانية من الانتخابات المحلية في تونس، وسط إقبال ضعيف، بعدما لم تنجح الحملات الإعلامية التي قادتها «الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات» في تحشيد الناخبين وحثّهم على التوجه إلى مكاتب الاقتراع. وتستهدف هذه الانتخابات اختيار أعضاء «المجلس الوطني للجهات والأقاليم»، أو «الغرفة الثانية» للبرلمان، وفقاً لما يقتضيه الدستور الذي سنّه الرئيس قيس سعيد بديلاً من «دستور الثورة» المصوغ في عام 2014، والذي أجرى بموجبه استفتاءً شعبياً جاءت نتيجته موافقة الفئة الشعبية الضئيلة التي شاركت في الاستفتاء، وسط عزوف كبير عن المشاركة فيه.ويعتبر سعيد إرساء «مجلس الجهات والأقاليم» الذي أوكِل إليه كل ما يتعلّق بمسائل التنمية والاقتصاد المحلي، ركيزة أساسية في نظام حكمه، قد تكون «الأهم». وهو قدّم هذا الكيان للتونسيين، بمثابة وسيلة أمامهم للمشاركة في مسار التنمية، على اعتبار أن ممثّليهم داخله سيحرصون على تقسيم الاستثمارات بشكل عادل بين الأرياف والمدن، وبين المناطق الداخلية النائية والفقيرة والساحل الحائز على النصيب الأكبر من التمويلات والمشاريع. إلا أن فكرة ذلك المجلس، والتي سُوّقت كحدث جلل يترجم شعارات التونسيين المطالِبين بتنمية عادلة، ليست ابتكاراً. فقد أورد قانون الحكم المحلي الصادر عام 2016 الفكرة نفسها، مضيفاً إليها انتخاب التونسيين لممثليهم في البلديات ليكون الحكم، منذ ركيزته الأولى في الأحياء، بيد الشعب. إلا أن المنظومة الحاكمة، آنذاك، بقيادة حركة «النهضة» وحزب «نداء تونس»، استحوذت على البلديات، وحوّلتها إلى وسيلة لفرض السياسات ومعاقبة المعارضين والإثراء غير المشروع، وهو ما يفسر الارتياح الشعبي لحلّها من قِبل سعيد وإحالة المشرفين عليها إلى القضاء.
على أن هذا الارتياح، لم يتبعه أي حماس لمشروع سعيد، إذ لم يشارك في الجولة الأولى من الانتخابات المحلية التي أجريت في 24 كانون الثاني الماضي، سوى 11% من مجمل الناخبين، في مشهد بات يتكرر في كل المواعيد الانتخابية تحت حكم سعيد: مكاتب اقتراع شبه خالية، وعزوف شعبي ملحوظ. لكن يبدو أن نظام سعيّد غير آبه بتلك المقاطعة، رغم تشكيل المشاركة في الاستحقاقات - في العادة - دليلاً على مشروعية نظام من عدمه. لا بل إنه بات يفرض نتائج هذه الاستحقاقات على الساحة السياسية، مغتنماً كل الفرص لترسيخ أسس حكمه، على مشارف الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها نهاية العام الجاري.
يحاول سعيد الاستثمار في محاربة إرث حقبة «النهضة»، أملاً في دفع التونسيين إلى إعادة انتخابه


مع ذلك، وخلافاً للمشاهد الانتخابية، تظهر نتائج سبر الآراء المحلية وجود قاعدة عريضة للرئيس، الذي يُحاط بحضور شعبي مكثّف في جلّ زياراته وتنقّلاته داخل البلاد، ومن بينها زيارات قام بها لضواحي العاصمة الأعلى كثافة سكانية والأكثر فقراً، خلال الأسابيع الماضية، حيث نال ترحيباً وشكراً على مواقفه من القضية الفلسطينية، والتي يبدو أنها سكّتت الغضب الشعبي مؤقّتاً. وتضاف إلى ما تقدّم، زيارات قام بها سعيّد إلى مؤسسات صناعية تابعة للدولة تشكو منذ ما يقارب العقد من تراجع بلغ حدّ إفلاس بعضها، حيث داعب مشاعر التونسيين بالقول إن المنظومة الحاكمة السابقة عملت على إفلاسها وتدميرها رغم أهميتها للاقتصاد التونسي، بقصد إغلاقها وإتاحة المجال لمستثمريها وأصحاب رأس المال الفاسد لفتح مؤسسات تحل محلها.
ولم تقتصر محاولات سعيّد خطب ودّ المواطنين على ذلك، إذ خاطب مجلس الوزراء، الأسبوع الماضي، بلهجة غاضبة، قائلاً إن أصحاب الشهادات الجامعية العاطلين من العمل البالغ عددهم ستمئة ألف، حُرموا من حقهم في التوظيف الحكومي جراء فساد مسؤولي الدولة في الفترات السابقة، متعهّداً بأن تكون الفترة المقبلة فترة محاسبة وإعادة الحقوق لأصحابها. وقصد سعيد بحديثه ذاك، توظيف «النهضة» ثلاثين ألف شخص في المؤسسات الحكومية في إطار ما يُعرف بـ«العفو التشريعي العام» عقب سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، والذي جعل «صندوق النقد الدولي» يشترط تسريح قرابة 30 ألف موظف كركيزة أساسية للإصلاح المطلوب مقابل الإقراض.
هكذا، يحاول سعيد الاستثمار في محاربة إرث حقبة «النهضة»، أملاً في دفع التونسيين إلى إعادة انتخابه، توازياً مع مواصلته «تصحير» الساحة السياسية. ويرى مراقبون أن الانتخابات المقبلة ستكون سباقاً بين سعيد وظله، إذ أعلنت أحزاب «الوسط الديموقراطي» مقاطعتها إياها، فيما جرى اعتقال عدد واسع من رؤساء وقيادات الأحزاب السياسية في ما يُعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة». كما أصدر القضاء التونسي، أخيراً، أحكاماً بسجن قيادات «النهضة» و«قلب تونس»، تمهيداً لحلّ حزبيهما، في قضايا تتعلق بتمويل أجنبي تلقّته أحزاب سياسية قبيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2019.
وفي تفاصيل الأحكام، نال كلّ من الغنوشي وصهره القيادي في «النهضة»، رفيق عبد السلام، حكماً بالسجن لثلاث سنوات، فيما قضت «المحكمة الابتدائية» بسجن رئيس حزب «قلب تونس»، نبيل القروي، ثلاث سنوات أيضاً. وجاءت تلك الأحكام إثر تقرير قدّمته «محكمة المحاسبات» عام 2020، أي خلال فترة حكم «النهضة» وحلفائها، على خلفية عملية تدقيق في حسابات الأحزاب والأفراد المرشّحين للانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو ما أثار آنذاك ضجة واسعة، احتجاجاً على تلكّؤ القضاء في إصدار أحكام ضد المتورّطين. كما جاءت الأحكام في وقت تتحدّث فيه قيادات في «النهضة» عن ضرورة حل الحزب وتأسيس بديل له تحت ظل قيادات جديدة. لكنّ هذه الفكرة سرعان ما ألقي القبض على عدد من أصحابها في ملف «التآمر على أمن الدولة»، ومن بينهم مسيّر الحزب بالنيابة، منذر الونيسي.