وسيم أحمد نابلسي *«إنّ روح المازوشيّة الوطنيّة تسود بفضل جحافل المتباهين الوقحين الذين يصفون أنفسهم بالمثقّفين» (سبيرو أجنيو، نائب الرئيس الأميركي الأسبق). تسود المشهد الثقافي اللبناني منذ عام 2005 صورة غرائبية. فحين تستميت المعارضة للمحافظة على وضع سياسي واقتصادي وحتى ثقافي كان قائماً سابقاً، بما يتضمّنه هذا الوضع من طائفية ومحاصصة وفساد ولا عدالة اجتماعية، في الوقت الذي ترفع فيه قوى 14 آذار شعارات تغييرية، فمن السهل تظهير هذا المشهد، وضمن منظومة من النَصب الإعلامي، كما لو أنه بات حكراً على قوى 14 آذار.
وبإزاء هذه الغرائبية يصبح بالإمكان، ويصبح مشروعاً، طرح السؤال: وهل بإمكان منضوٍ تحت لواء 14 آذار أن يكون، بالتعريف، مثقفاً؟ وهو السؤال الذي قد يبدو مروّعاً حتى بالنسبة إلى الذين لا يستحمّون يومياً بالخندق الإعلامي لوسائل إعلام 14 آذار.
بطبيعة الحال، قد يكون من حق «مثقفي 14 آذار» أن يطلقوا على أنفسهم، من زاوية التراكم المعرفي، لقب مثقفين أو انتلجنسيا. ولكن كما هو معلوم، ليس من شأن التراكم المعرفي بذاته أن يصنع مثقفين (intellectuals) وليس له أن يمكّن «انتلجنسيا» من أن تنتج ثقافة (culture).
فبتقصّي الجذور التاريخية لمفهوم «الثقافة»، نجد أن هذا المصطلح قد ظهر أساساً كرد فعل ألماني (قومي ــ وطني) على مصطلحي «الحضارة» و«التنوير» الفرنسيين. ففيما كان هذان المصطلحان يغزوان البلاط الألماني الذي كان يفضّل التحدث بالفرنسية على لغته الأم، شعر المفكرون الألمان بضرورة مواجهة هذا الغزو. فكان الفرنسيون، المنتشون باستعمارهم المستجد لمن سمّوهم «شعوباً بدائية» في أفريقيا، يعتقدون أن منظموتهم المجتمعية (التي سمّوها «الحضارة») ينبغي لها أن تنشر نورها على سائر أوروبا كما على الشعوب البدائية التي يستعمرونها.
هنا انبرى الفلاسفة الألمان ليقولوا إنّ الشعوب ليست متشابهة كما ينظّر الفرنسيون، وإن لكل شعب ثقافته الخاصة التي قد يؤدي تفعيلها وتطويرها إلى تخليق منظومات اجتماعية أكثر تطوراً وتعقيداً. هذه المنظومات المتطورة قد تتشابه أو لا تتشابه مع المنظومة الفرنسية التي لا يمكن النظر إليها كنموذج عام ينبغي تعميمه. وقد تطور هذا الصراع المفاهيمي واستمر حتى يومنا هذا منشئاً مدارس في الفلسفة والسوسيولوجيا ما زالت متصارعة.
أما اليوم، فيتجلى هذا الصراع، أكثر ما يتجلى، عبر التضادّ! بين مصطلحي «العولمة» و«الثقافة الوطنية».
وبالعودة إلى المشهد الثقافي اللبناني، وبنظرة سريعة إلى مجمل طروحات 14 آذار، بدءاً من الأدبيات وصولاً إلى النهج والممارسة، وبما تمثله من إلحاح على ضرب الثقافة الوطنية واستبدالها بقيم العولمة المتأمركة سياسياً وإقتصادياً واجتماعياً، فمن الجلي أن هذا الفريق بسياسييه ومثقفيه هو، بالتعريف والطبيعة، تجمّع للأشخاص المعادين للثقافة الوطنية والراغبين بضربها واستبدالها.
ومن ناحية ثانية، وبالسؤال عن المنتج الثقافي لانتلجنسيا 14 آذار من حيث كونه (أي المنتج الثقافي عموماً) مرتبطاً بجذور اجتماعية تجعله تعبيراً عن مواقف سياسية واقتصادية عامة كما يعرّفه مانهايم، فما هو هذا المنتج لدى انتلجنسيا 14 آذار؟ هل هو شعار «أنا أحب الحياة»؟ أم هو التنظير لحداثة المحافظين الجدد وللعروبة المتأمركة المبنية على الريعية النفطية؟
هل هو تعميم لروح المذهبية والانتماءات ما دون الوطنية أم تعميم روح المازوشية الانهزامية في مواجهة إسرائيل؟ إذا نظرنا إلى شعار «حب الحياة» بوصفه درة تاج المُنتَج الثقافي الآذاري الذي كرست له ملايين الدولارات وكبرى شركات الميديا لترويجه، فبماذا يفيدنا هذا الشعار؟
إنه يفيد أن القيّمين عليه ليسوا فقط منعزلين عن المجتمع بل هم متعالون عليه ينظّرون له بضرورة العيش في قطيع لا همّ له سوى كلأ يومه ليجترّه على حواف «الكازينو الكبير الذي يراد له أن يكون وطناً». ففي النهاية، الخراف تحب الحياة وأيضاً الجزّار يحب الحياة. إنه شعار عبقري يدفع الضحية لأن تحب الجلاّد وتدافع عنه باعتباره شريكاً لها في الشعار، لكنه لا يمكن أن يكون منتجاً ثقافياً. وهو على عبقريته لجهة توظيفاته، يبقى مَعيباً كمنتج وحيد لطبقة كاملة من الانتلجنسيا المزعومة.
بهذا المعنى، يصبح مثقفو 14 آذار الانتلجنسيا التقليدية المنعزلة عن المجتمع وحراكه (دون إمكان وصفها بالنخبوية) التي تكرس نفسها لحماية واستمرار «الهيمنة» (كما فصلها غرامشي). هذه الانتلجنسيا لم يفرزها الجمهور وليست متولّدة طبيعياً عن طبقات اجتماعية معينة بل أوجدها المال السياسي. وهي لا «تعبّر» عن تطلعات الجماهير، بل عن تطلعات صاحب المال أو صاحب النفوذ. وهي قبل كل شيء، معادية للثقافة الوطنية. فهل يصلح كل ما سبق كإجابة عن السؤال المروع الذي طرح قبل قليل؟
وفي هذا السياق نفسه تصبح المعارضة، بتمسّكها بالقديم ورفضها التغيير المروّج له من قوى 14 آذار، تغييرية. وهي تبقى تغييرية حتى رغم إشكالية علاقتها بمثقفيها، ورغم حالة العقم الظاهر التي قد يرى البعض أنها أصابت هؤلاء. وهاتان الإشكاليتان هما دون شك جديتان وخطيرتان. ولكن، ألم تفرز المقاومة في حرب تموز ثقافة جديدة ترفض المازوشية المنتهجة من جانب «snobs» 14 آذار؟
ألا يُعدّ خطاب الوعي وطروحات الزوال القريب والحتمي لإسرائيل منتجاً ثقافياً جديداً في مواجهة الخطاب الخشبي الميتولوجي لأنصار نظرية الهزيمة العربية الأزلية والتفوق الإسرائيلي الأبدي؟ ورغم كون هذا الخطاب صادراً عمن يفترض أنه رجل دين معمّم وأصولي تيولوجي لا يمكن أن يكون مثقفاً بالمعنى الـ «snobbish» للكلمة، فإنه وبكل تأكيد يمثّل منتجاً ثقافياً معبّراً عن التطلعات الحقيقية لشعب يحتاج إلهاؤه عن تطلعاته، إلى دعم من القوى العظمى وإلى تراكمات امتدت سنينَ وإلى ملايين الدولارات تصرف على حملات إعلامية بلهاء.
* محامٍ