هشام صفي الدين **«يا صاحب السموّ!»
هكذا يخاطب العالِمُ السلطانَ (الفخري)، قبل أن يمتدحه ويعلي من شأنه: «أنا مسرور جدّاً بوجودي هنا اليوم لكون الأمير تركي (الفيصل) والأكاديمية الدولية للسلام يتمتّعان بعلاقة خاصة منذ وجوده في واشنطن. إنه عضو في مجلس إدارتنا. وإنه لشرفٌ عظيمٌ أن أكون بينكم جميعاً اليوم».
مجلس الإدارة هو ذلك المشرف على الأكاديمية الدولية للسلام في النروج. ورئيس هذه الأكاديمية، التي تتمتّع بعلاقة خاصّة مع أحد أعيان آل سعود، الذي ينتابه شرف عظيم لوجوده خطيباً في مملكتهم، هو الدبلوماسي الدؤوب في بحثه عن خلاص لأزمات الشرق الأوسط تيري رود لارسن. ويبدو أنّ رود لارسن لا يجد حرجاً من إعلان هذه العلاقة الوطيدة، رغم كونه يتبوّأ منصباًَ أممياً يفترض به الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء (تخيّلوه يفاخر بصداقة لأحمدي نجاد). لكن الأهم من ذلك هو أنّ رود لارسن في خطابه هذا الذي ألقاه في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في الرياض يوم 22 أيار من العام الفائت تحت عنوان «لبنان صورة مصغّرة عن الصراع في المنطقة»، يكشف لنا رؤيته السياسية حول قضايا المنطقة. قراءة هذا الخطاب تمكّننا من استشفاف الأهداف الكامنة وراء جهود رود لارسن المستمرّة في أخذ الأمور في اتجاه معين تحت غطاء الدبلوماسية المحايدة، وتثبت أن الكلام عن انحياز رود لارسن لفئة دون أخرى ليس مجرّد ادعاءات مبالغ فيها. ومجدداً لا يبدو أن رود لارسن يجد حرجاً من الحديث بصراحة عن أفكاره السياسية (وإن بلغة علمية «موضوعية» و«محايدة») دون أن يرى في ذلك تهديداً لنزاهة دوره كممثّل للأمم المتّحدة (آخر نشاطاته النظر في عقد مؤتمر لخلاص لبنان في باريس؟). يمكن تفسير «شجاعة» رود لارسن هذه إذا ما أدركنا أنه يجسّد الدور المزدوج للمستشرق الجديد الذي ــ بحسب إدوارد سعيد ــ يحتوي خطابه على عنصري القوّة والمعرفة. إنّه رود لارسن السياسي الدولي ــ عنصر القوة (ممثّل الأمم المتحدة) ــ ورود لارسن الخبير والمثقّف ــ عنصر المعرفة (الأستاذ السابق للعلوم السياسية والفلسفة في جامعة أوسلو والرئيس الحالي لأكاديمية السلام العالمية النروجية).
لذلك، خلال كلمته في الرياض المذكورة أعلاه، لم تكن الأدوار موزّعة كما تجري العادة حين يجتمع السلطانُ بالعالِم؛ فالسلطان هنا (تركي الفيصل) من غير سلطة، فيما العالِم (تيري رود لارسن) يملك القولَ والفعلَ معاً. وامتلاك رود لارسن عنصري القوة والمعرفة يمكّنه من التنقّل بين الدورين من دون مساءلة أو تقويض لصدقية خطابه كما يسمح له بتأكيد الفصل بينهما: فيجزم في مستهلّ الخطاب بأنه يتكلّم بصفته العلمية («عليّ أن أشدد منذ البداية على أنني أتكلم بصفتي رئيساً للأكاديمية الدولية السلام، لا باسم الأمم المتحدة، حيث أعمل مبعوثاً خاصّاً للأمين العامّ من أجل تطبيق القرار 1559»). ثمّ لا ينفكّ يكشف لمن يخاطبهم عن سطوته السياسية عبر تذكيرهم بين الفينة والأخرى بدوره الفاعل في مجرى الأحداث المهمة كالانسحاب الإسرائيلي أو السوري من لبنان أو الانتخابات النيابية اللبنانية في صيف 2005 أو حرب تموز 2006. ويكتمل تجسيدُ رود لارسن للخطاب الاستشراقي في «إطلاعه» أهل المنطقة (ومِن على أرضهم بالذات حيث يلقي محاضرتََه) على واقعهم. فهو «يعي» طبيعة شعوب الشرق الأوسط، وعليه يؤكّد أنّ الصراعات التي تعصف بهم ليست نتيجة «صدام الحضارات» بل نتيجة «صدام القيم» ضمن المجتمع الواحد. فيشير مراراً، وإن بأسلوب تقريري، إلى تنامي البُعد المذهبي السنّي الشيعي للصراع. ويتحدّث رود لارسن عن تحوّل جذري في أولويّة هذه النزاعات، مشيراً أكثر من مرّة إلى الكلام عن صعود النفوذ الفارسي واحتمال اصطدام القومية الفارسية بالقومية العربية. ثمّ لا يلبث أن يعلن انتهاءَ الحقبة التي تبوّأ فيها الصراعُ العربي ــ الإسرائيلي وحده قائمةَ ما يَحُول دون تحقيق سلام دائم («في الصيف المنصرم عندما رافقت الأمين العام للأمم المتحدة في حينها كوفي أنان خلال رحلاته في المنطقة في ظلّ الأزمة المنبثقة عن حرب إسرائيل وحزب الله، شكّل تكراراً لنا الانطباع أن العيون في المنطقة كانت شاخصة ليس فقط نحو تل أبيب ولكن، وبنفس الاهتمام، نحو طهران. أعتقد أن «هذا التشخيص» ما زال صحيحاً اليوم»).
ويذهب رود لارسن إلى أبعد من ذلك في المقارنة بين تل أبيب وطهران عبر إعادة ترتيب أولويات البحث عن حل لأزمات المنطقة (طهران أوّلاً) فيفتي أنه «من دون حل أزمة إيران النووية، من غير المتوقّع أن نرى الكثير من التقدّم نحو حلّ القضايا المفصليّة الأخرى في المنطقة، أي لبنان، العراق، أو الصراع العربي الإسرائيلي».
والحال أنّ رؤية رود لارسن للصراع على أنّه دائرٌ بين القيم والطوائف والإثنيات أو القوميات ليست رؤيةً عابرةً لسياسيّ وصوليّ وحسب، بل رؤية رائجة في الدوائر الأكاديمية الغربية تمثّل إحدى ركائز نظرية «الحروب الجديدة» التي ترى نزاعات ما بعد الحرب الباردة مختلفةًً جوهريّاً عمّا سبقها. وبحسب ماري كالدور، أستاذة العلوم السياسية في «مدرسة لندن للاقتصاد» وأبرز المنادين بهذه النظرية، تتميّز هذه الحروب عن سابقاتها بما يلي:
ــ الأهداف: فهي حروب تتعلق بالصراع حول الهوية (الدينية/ القومية/ الإثنية)، لا الإيديولوجيا أو المصالح الجيوسياسية كالتي دارت حولها الحروبُ القديمة.
ــ أساليب القتال. فبينما قامت استراتيجيّةُ القتال التي اعتمدتها القوى غير النظاميّة سابقاً (وكان من أبرز مؤسّسيها ماو وغيفارا) على التضامن مع المدنيين واستمالتهم، تقوم فلسفة الحركات الثورية والميليشيات غير المنظّمة الحالية، بحسب كالدور، على مبدأ زرع الاضطراب والرعب بين المواطنين بهدف السيطرة عليهم والتخلّص ممن لا ينتمون إلى هوية المقاتلين.
ـــــ التمويل. تشدّد كالدور على لامركزية شبكات تمويل النزاعات «الجديدة» بما يتناسب مع عولمة النظام المالي الدولي. وعليه، تعتمد القوى الثورية على نهب الموارد الطبيعية، واحتجازِ الرهائن مقابلَ المال، وتجارةِ الممنوع، بحيث يصعب التمييز بين العمل الحربي والعمل الإجرامي المافيوي.
والحقّ أنه بغضّ النظر عن صحة هذا التوصيف، فإنه ذو دلالة عميقة على فرضياته العنصرية والاستشراقية وعلى ما يمليه من أساليب لحل هذه النزاعات على أيدي خبراء من أمثال رود لارسن. فإذا ما سلّمنا أنّ هذه الحروب بين هويات ثابتة، أصبحت هذه النزاعات بلا نهاية متوقعة؛ وهو ما تقوله كالدور فعلاً. ولمّا كانت النزاعات تدور داخل المجتمع الواحد (كما يعلمنا رود لارسن) وضمن الدولة الواحدة و«الفاشلة» وفي ظلّ طلاق، بل وتضادّ بين المقاتلين والمدنيين، فقد أصبح التدخّل الخارجي أمراً منطقيّاً وضروريّاً لحماية شعوب هذه الدول من أنفسهم. وبعدما كانت مهمة المستعمِر تحضيرية تمدينية (civilizing mission)، ها هو يعلن (وبالكثير من الأسى طبعاً) فشلَ مشروعه لوجود اختلاف «جوهري» بينه وبين مَن يستعمره. وهكذا يصبح مشروعه الحضاري أقلَّ طموحاً وأكثر «واقعية»: فيقتصر على منع السكان الأصليين من إبادة بعضهم بعضاً، وذلك عبر فرض القانون والاستقرار، ومن ثم إعادة بناء الدولة... ولكن بحسب «طبيعة» هذه المجتمعات، أي ضمن إطار يتناسب والتركيبة الدينية والإثنية (إلخ)، وإن تناقض ذلك مع المفهوم المعاصر للدولة الحديثة، أي دولة المواطنة. وسنجد أنّ هاتين المهمتين (وأعني الذودَ عن السكّان المدنيين من إرهاب قواهم الميليشيويّة وتقاعُس دولتهم الفاشلة، وإعادة بناء مجتمعاتهم بما يتناسب وهويّات أهلها الإثنية والدينية) تمثّلان النواة الفكرية لأبرز الآليّات الجديدة المستخدمة في حلّ هذه النزاعات وممارسة الوصاية المستمرة على الشعوب المتنازعة ولكن بشكل غير مباشر وإن بإشراف دولي و أممي على يد رود لارسن وغيره.
في ختام خطابه في الرياض، وبعد أن يكيل المديح لحكمة السياسات السعودية في المنطقة ويدعو المجتمع الدولي إلى أن يحذو حذوها، يستشهد تيري رود لارسن بشعر جبران خليل جبران وحديث الأخير عن «الثعابين أولاد الثعابين» الذين ساهموا في تسميم حياة شعوب أرض الأرز المقدّس. ويستخلص رود لارسن العبر من شعر جبران فيعلن أنّ «ما يعلّمنا خليل جبران هو التالي: أنّ نصيب لبنان المأساوي يمكن أن يتحسّن لو تمّ العثور على كلّ الثعابين وتم القضاء على السم للسماح لتربة لبنان الخصبة بأن تزهر وتثمر». تلك هي إذن وصية تيري رود لارسن للّبنانيين وشعوب الشرق الوسط: عليكم بالثعابين... إن وجدتموها!
وهل يخفى، يا تيري، القمر؟
* هذا المقال جزء معدّل من دراسة حول الاستشراقيّين الجُدد ومفهوم الاستعمار عن بعد، ستنشَر
في العدد القادم من مجلّة «الآداب».
** باحث وصحافي لبناني كندي.