مصطفى الهواري
حيث الجميع أشرار إلا النساء والشيوعيّين

في البلدان المغلقة، يأخذ الأدب البوليسي أو الرواية السوداء معنىً سياسياً مباشراً، وهذا ما يفسّر ربما، شبه انعدام الرواية البوليسية السوداء في البلدان غير الديموقراطيّة؛ لكن ألم يبقَ هذا النوع من الأدب الوحيد الذي له معنى في ظروف كثير من البلدان العربية؟
أن تهرب نحو المنفى الغربي لتُستعمل في غايات أخرى، أو أن ترضخ للنظام القائم مع قتل معتقداتك وحتى ذكائك أو الموت في المجهول برصاصة في الرأس في ميدان ما، ذلك هو مآل النخب في رواية شديدة السواد عن الجزائر بعنوان «تحليق الشاهين الأخضر»، التي صدرت في باريس في شباط 2007. وصاحب الرواية هو إطار جزائري، موظّف سام قرّر الهجرة إلى كندا حيث رافقه الخوف على ما يبدو إلى ذلك البلد البعيد لكونه تخفّى وراء اسم مستعار هو «عميد لارطان».
أشادت مقالات كثيرة في الصحافة الفرنسيّة بهذه الرواية السوداء التي تأخذ من فضيحة الخليفة ذريعة لوصف عالم غامض من التظليل واللهث وراء المال والتقتيل في جزائر التسعينيات وهي في خضمّ الصراع بين العسكر والإسلاميّين. إنها رواية قصيرة (213 صفحة) لكنّها مكثَّفة، وهي ليست نظريّة جديدة للمؤامرة، بل نوع من الدرس في الاقتصاد السياسي المقدَّم بطريقة فنيَة، يوفّر مفاتيح لفهم كيف انزلقت الجزائر نحو الجحيم خلال التسعينيات، وكيف ما زالت اليوم تجد صعوبة في الخروج منه.
لم يصدر في الجزائر غير مقالين أو ثلاثة عن الرواية، أحدها يتّهم الكاتب المجهول بالمساس بصورة الجزائر، وآخر أكثر إيجابية، حيث قال إنّه من خلال الرواية، نفهم قضية الخليفة أكثر من متابعة مسلسل المحاكمة الذي جرى في مدينة البليدة ابتداءً من شباط 2007.
لماذا كان هناك حرج للتكلّم «أدبياً» عن رواية أشاد بها النقّاد في فرنسا؟ لم يكن هذا الامتناع مفاجئاً لأحد لأنّ وراء شخصيات الرواية التي أعطاها المؤلّف أسماءً ساخرة «الأمين بو ترامين، الجنرال لحنش، العقيد زعمة، ووزير الفلوس زين فرطاس، فيفي الجرانة...»، تعرّف القرّاء على مسؤولين كبار كانوا يحكمون البلاد وما زالوا.
كما جعل الكاتب من الاسم المستعار الذي اختاره أيضاً لنفسه نصيباً من التهكّم: أعطى لنفسه رتبة عميد «لأن ما دون هذه الرتبة لا شأن له» وأيضاً لارطان وهو مخدّر شديد المفعول يفضّله الشباب الجزائري للهروب من الواقع.
وإذا كان رجالات السلطة المخفيّون قد صُوِّروا بهذا الشكل، فللإسلاميّين حصّتهم من السخرية السوداء في هذه الرواية: إنّهم أفظاظ دمويّون، جشعون ويبيعون ذممهم حتى لمن يبدو أنّهم أعداؤهم: «موح الشهيلي، أبو الرهط». أو أنهم مثاليّون تائهون في حرب قذرة «الحكيم» أو أنّهم أشخاص لم يبقَ لهم أي معتقد وهم يمارسون لعبة الموت كما تمارس مباراة في كرة القدم أو الشطرنج.
والشخصيات الإيجابية الوحيدة في الرواية هم النساء (عويشات وزهيدة)، غير أنّه لا حلّ لهنّ سوى الفرار، الأولى من بيتها الزوجي والثانية من البلاد نحو كندا كما فعل الكاتب.
هناك شخصية إيجابية أخرى «الصادق بوناب» شيوعي سابق ومدير شركة عمومية (الديوان العمومي للتقاعد)، الذي يواجه ضغوطاً كبيرة لحثّه على إيداع أموال المتقاعدين في بنك «الشاهين الأخضر» وينتفض ويقاوم لكنه يقتل.
فباللجوء إلى أدوات الرواية يرسم عميد لارطان لوحة سوداوية للجزائر البيضاء وهو يرتكز على أحداث معروفة (قضية الخليفة) التي أدّت إلى تهريب مليارات الدولارات من الأموال العمومية، لكنّ المخيّلة الروائية هي التي سمحت بملء الفراغات لهذه القضية المبهمة.
ويجعل المؤلف من مدينة الجزائر شخصية هامّة في الرواية تقول إنّه في بلداننا «لا تُكتَشَف الحقيقة بل تُختَرَع». وهذا الذي قام به لارطان في رواية يمكن أيضاً أن تُقرأ كدراسة اقتصادية وسياسية.
* كاتب جزائري





العنوان الأصلي
l’envol du faucon vert
الكاتب:
عميد لارطان
الناشر
métaillé