نبيلة صعب فتح الله *
على كل دولة متطوّرة معرفة استراتيجيتها حسب ظروفها، ومن ثمّ، بناء قواها المسلّحة، الحامية والمحصّنة للوطن. وإذا كانت الاسراتيجية الإسرائيلية قائمة على فكرة «الاعتداء التوسّعي» مُسخّرة في ذلك الدولة والمجتمع لخدمة الجيش ورعايته، فإن استراتيجية لبنان «المسالم المقاوم»، اعتمدت على قوّة من طراز مختلف من حيث التركيبة والجهوزية، والتعبئة، وأسلوب القتال، لأنّها تقوم على أسلوب «حرب العصابات». وكانت النتيجة عجزاً إسرائيلياً عن تطبيق المبادئ الرئيسية لاستراتيجيّته، لتحقيق أهدافه الحربية في لبنان، وهذا ما نعزوه إلى الرّيادة الحكيمة لقيادة الجيش اللبناني والمقاومة الإسلامية.
إنّ فهم حقيقة الكيان الصهيوني فهماً عميقاً وواضحاً بوصفه عدوّاً، من حيث الوسائل العسكرية الكبيرة في التفوّق العسكري، إلى جانب العوامل المحيطة به من النشأة الشاذّة في قلب المحيط العربي المعادي، ووسط عمق جغرافي ضيّق إلى جانب ضعف ديموغرافي، يجعلنا نستوعب أسباب خوف هذا الكيان الدائم، الذي يدفع به إلى درجة المرض المزمن في السعي لتأمين تفوّق عسكري متطوّر، وذلك لتفادي الحرب الطويلة، لكون الجيش الإسرائيلي، قائماً في الأساس على قوّات الاحتياط.
إن المسارعة إلى نقل المعركة باتّجاه أرض العدو، كان الهدف الأول لإبقاء عُمق إسرائيل بمنأى عن الخطر من جهّة، واعتماد نظريّة «الحرب الخاطفة» من جهة ثانية، وذلك للمحافظة على عنصري المبادرة والمفاجأة في الهجوم؛ إذ إن إطالة الحرب الإسرائيلية، ولو لأسابيع قليلة، من شأنها أن تسبب كارثة على إسرائيل من الناحية الاقتصادية. من هنا نفهم معنى الحرب الخاطفة القائمة على الحركة السريعة مع تركيز جهودها على سلاحي الطيران والمدرّعات.
في المقابل، نجحت المقاومة اللبنانية في تعطيل ركيزتين أساسيّتين من هذه الاسراتيجية، إذ استطاعت جرّ الجيش الإسرائيلي في مُنازلة طويلة، امتدّت لخمسة أسابيع، وكانت مرشّحة للتمديد لولا سريان مفعول القرار 1701 (الذي أتى لخدمة إسرائيل من الولايات المتحدة)، كما نجحت بنقل النار إلى الداخل الإسرائيلي بواسطة «الصواريخ المنحنية» والكثيفة.
يبقى السؤال عمّا إذا كان تلازم جناحي الدفاع المتماسكين، وهما الجيش والمقاومة، هو سبب الانتصار المجيد على العدوّ الذي لا يُقهر. وهل هذان الجناحان متكاملان بالضرورة للاستراتيجية اللبنانية؟ وما هو دور كل منهما للإبقاء على لبنان سيداً مستقلاً حراً؟
لقد أكّد السيد حسن نصر الله على وقوف المقاومة إلى جانب الجيش في خطاب احتفالات الذكرى الأولى لحرب تموز. ومن جهته، نوّه قائد الجيش بالتضحيات الكبيرة التي قامت بها المقاومة اللبنانية، مؤكداً دعمه لها، ومشدّداً في الوقت نفسه على وجوب أن يقتنع الجميع بضرورة صون المقاومة والحفاظ عليها، حتى لا يفقُد الوطن أبرز عناصر قوّته الراهنة، ويُصبح ساحة مفتوحة لتمرير المشاريع المشبوهة، وعلى رأسها توطين الفلسطينيين في لبنان. إذاً، فالجيش والمقاومة اللبنانية، هما العنصران المهمّان لآلية الدفاع الأهلية والرسمية، في آن عن لبنان. ففيما نجحت المقاومة في الشقّ العسكري لمواجهة واحد من أعتى الجيوش في العالم وأقواها، فإنها تلافت أيضاً إثارة أية فتنة طائفية أو مذهبية في الداخل، أرادتها أميركا للتخفيف من نور انتصارها.
أمّا الجيش اللبناني، فقد حوّل جهده الميداني الإنساني في مخيّم نهر البارد لتلافي قتل الأبرياء من المدنيّين، إلى عنصر موحّد للتأييد العام له، رغم الكلفة البشرية الفادحة التي تكبّدها عناصره. وبقيت أولويّة الجيش، صدّ أيّة موجة عُنصريّة لبنانية ضد الفلسطينيّين، هذه العنصرية التي زرعتها الديموقراطية الأميركية أملاً في تفتيت قوته وقهره. أمّا في الخارج، فكان للجيش اللبناني في حماية ظهر المقاومة معنويّاً ومادياً، الأثر الاستراتيجي الأهم في حمايتها من أي غدر.
نعم، لقد سقطت أسطورة إسرائيل التي حاولت ترويع العالم العربي والإسلامي منذ تأسيسها، ولم يُعد بإمكانها القفز فوق القرارات الدولية لإلغاء حقوق الشعوب العربية بالأرض والسلام والكرامة، بدليل تداعيات سقوط إسرائيل مرّتين أمام لبنان الصّغير حجماً، لكن الكبير عزة وكرامة، وتأثير هذه التداعيات ليس على المجتمع الإسرائيل فحسب، بل على قياداته السياسية والحربية أيضاً. ويشير هذا المعطى إلى أنّ إسرائيل ستُفكّر ألف مرة في المستقبل قبل أن تُقدم على أي اعتداء على لبنان القوي بمقاومته وبجيشه.
*مستشارة إعلامية