ما تعتمده الدول اليوم في هندستها لسياسات القطاع العام تربطه بالتطور العلمي
ما تعتمده الدول اليوم في صياغتها وهندستها لسياسات القطاع العام، تربطه بالتطور العلمي والتكنولوجي الذي بات يسبق بنتائجه كافة التوقعات. وهو الأمر الآخر الغائب عن الدولة اللبناينة، والتي ما تزال ــ حتى الآن ــ بعيدة عن تحقيق ما هو أقل منه، لا سيما إجراء التحوُّل نحو الحكومة الالكترونية على سبيل المثال. وهنا، فإن المطلوب من الدولة اليوم، أن تنطلق لوضع واعتماد استراتيجية طويلة الأمد تهدف لتقديم الدعم الشامل لكافة قطاعات الاقتصاد اللبناني، مع التوجه إلى تطوير بنية الدولة عبر التأسيس لواقعٍ إداري مُحكم ومعرفي، تكون أولى خطواته وليس آخرها تطبيق الحكومة الإلكترونية. بموازاة ذلك يجب العمل على أولوية إصلاح السياسات التقليدية، لا سيّما الاقتصادية والمالية منها. وهو ما يحتاج عملياً، إلى وضع خطة خمسية للدولة اللبنانية ذات طابع إنتاجي. فما هي الأسس التي يجب أن تتكون منها هذه الاستراتيجية؟
تتكوَّن هذه الاستراتيجية من أُسس عدّة، تقع ضمن إمكانيات القطاعات الحالية في لبنان، وتُساهم في صناعة تحوُّل بنيوي وظرفي، سريع ومُستدام، يرفع من مستوى مُخرجات قطاعات الإنتاج في لبنان كماً ونوعاً، ويُساهم في تأمين القدرة على مواكبة التطور.
أولاً: وضع سياسات تدعم التّحول نحو مجتمع المعرفة، من خلال دعم القطاعات البارزة في العلوم والتكنولوجيا، وتحفيز طاقاتها والمشاريع الناتجة عنها من أبحاث وبرامج، بحيث يستطيع لبنان ومن خلال إمكاناته الموجودة في هذا المجال، بناء مكانة تجعله يستحوذ الميزة التنافسية الإقليمية في عالم البرمجة والمعلوماتية.
ثانياً: دعم قطاع الصناعة اللبنانية وتقويته، بحيث يُصبح في المُستقبل داعماً للقطاعات الأخرى في لبنان لا سيّما القطاعين الأساسيين، الزراعة والخدمات. يُمكن أن يحصل ذلك من خلال سياسات عدّة تبدأ بدعم الصناعات المحلية، وسن القوانين والسياسات التي تُحفِّز الاستثمارات في القطاع الصناعي المحلي، والمساعدة في تصدير منتوجاته، بالإضافة إلى منع إغراق السوق اللبنانية بالسلع الأجنبية، وصولاً الى السياسات المالية المتعلقة بتحفيز الإنتاج عبر دعم الدولة لكلفة الإنتاج والمواد الأولية.
ثالثاً: تقديم مشاريع الإصلاح الإداري والمالي لمنع الهدر والفساد، والبدء بدعم الخدمات العامة للدولة من خلال تنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية، كمقدمة لإيجاد تَحوُّل في بنية القطاع العام وربطها بالقطاع الخاص، ما يؤثِّر على آلية قطاع الخدمات عموماً.
رابعاً: وضع سياسات وخطط استباقية لدعم قطاع النفط والغاز، في محاولة لتأمين الاستفادة من موارد الطاقة التي بات يمتلكها لبنان. وهو ما يمكن أن يبدأ من خلال تحفيز إنتاجات الصناعات البيتروكيمياوية.
تغيب الرؤية الاستراتيجية الشاملة للدولة اللبنانية عن الخطاب الانتخابي للأطراف المحلية. فالمعركة المقبلة بحسب القانون النسبي، جعلت الأطراف تغرق في حسابات الأحجام، على اعتبار أنها معركة أحجام. وهو ما لا يُبرِّر غياب الرؤية الاستراتيجية، والتي تتعلق مباشرة بواجب النائب اللبناني الذي حدَّده الدستور والقائم على دوره التشريعي والرقابي. فالتشريعات بالقوانين لا تصدر إلا بعد موافقة المجلس النيابي عليها، وهو ما ينطبق أيضاً على مسألة الرقابة الخاصة بأداء السلطة التنفيذية. وهنا فإن العملية التشريعية، تهدف لدراسة واقتراح القوانين التي تتعلق بحياة المواطن اللبناني (تنظيم حياة المواطن، تحديد العلاقة بين الشعب والحكم...) والتي ترسم بالنتيجة السياسة الداخلية للبلاد كما السياسة الخارجية. من جهةٍ أخرى، تأتي عملية الرقابة على السلطة التنفيذية لمراقبة أداء الحكومة وأجهزة الدولة، وتطابقه مع السياسات العامة الداخلية والخارجية. ليكون النائب بالنتيجة مُمثلاً لمصالح المواطن في المجلس وراعياً لها. فأي مجلسٍ نيابيٍّ ينتظر لبنان، تغيب عنه الرؤية الاستراتيجية الشاملة للدولة؟
* باحث لبناني